بمناسبة تأبين المناضل البحريني علي عبدالله دويغر: مسيرات (الموت والشهادة) للمناضلين البحرينيين في المنافي القسرية

علي دويغر مع ابنة أخته ريم خليفة في الثمانينات في منزل العائلة بالمنامة
علي دويغر مع ابنة أخته ريم خليفة في الثمانينات في منزل العائلة بالمنامة

2013-10-21 - 9:50 م

هاني الريس*

كانت ريم خليفة، التي جاءت من البحرين  إلى مدينة مالمو بالسويد، خصيصًا للمشاركة في تشييع جثمان خالها فقيد البحرين المناضل علي عبدالله دويغر، في 18 أيلول/ سبتمبر 2013، واقفةً أمام التابوت الجنائزي، الذي وضع عليه علم كبير للبحرين، وكانت تحيط بجوانبه أوراق من غصون الصنوبر وأزهار البنفسج والياسمين. كانت ريم تجهش بالبكاء الذي يحرق الأكباد، وتدهش حرقته حتى الأموات، وسط حشد المشيعين من أبناء الجالية البحرينية في إسكندنافيا، وزوجة الفقيد وأبنائه الثلاثة، وأصدقاء العائلة من المواطنين السويديين، تسرد عرضًا تاريخيًا مقاومًا، بالكتابة والفكر والدعوة إلى استئصال المرض الطائفي في البلاد، والإصرار على التمسك بحياة النضال الوطني العنيد، الذي شكل جزءًا هامًا من حياة مفكر ومناضل حقيقي.

عاش واستشهد من أجل خدمة البحرين وشعبها، رغم لحظات الموت الطويلة التي واجهته، سواءً في داخل سجون البحرين أو في المنافي القسرية، التي عاشها وحيدا طريدًا من بلاد أحبها وضحى من أجلها ومن أجل شعبها، بروحه وقلبه وجوارحه، وكل ما تعرضت له العائلة من ممارسات القمع والاستبداد، على أيادي الأجهزة الأمنية البحرينية. وكانت أعين الجميع مشدوهة تنظر إليها بقلوب منهكة وحزينة، وكانت زوجته السويدية كرستيان والدكتور عبدالهادي خلف تحدثا طويلًا عن مناقب ونضالات الرفيق دويغر، وتضحياته من أجل الشعب والوطن، التي تدل على شجاعة قائد أظهر تفوقًا في نضاله.

هذه الواقعة المؤثرة في النفوس والأفئدة، التي تحدثت حولها ريم خليفة، خلال التشييع، والتي جعلت إنسانًا مناضلًا  يضحي بحياة كاملة من أجل الوطن وشعب البحرين، وينتظر أكثر من 73 عامًا، من أجل أن يحقق الحلم الذي راوده بأن تكون البحرين واحة الحريات الديمقراطية وحقوق الإنسان، حتى فارق الحياة في المنفى، تشبه حياة العشرات عن المناضلين البحرينيين، الذين كرسوا حياتهم للدفاع عن حقوق الفقراء والمسحوقين، وعن العدالة الاجتماعية والعيش الرغيد في البحرين، وتكبدوا المشقات، والاعتقالات، والتعذيب الوحشي الممنهج، والمحاكمات الظالمة، والملاحقات والتشريد والنفي القسري، وحاصرتهم الأخطار والأمراض والفواجع، ولم يحيدوا قيد أنملة عن خياراتهم، وأفكارهم، ومبادئهم، وتطلعاتهم نحو تأسيس دولة القانون والحريات، وعاشوا مرغمين منفيين، ومبعدين سنوات طويلة من الزمن، عندما ضاقت بهم أرض دلمون وأرض الخلود، ومن بعدهما ما قيل أنها واحة الديمقراطية والحكم الدستوري وحقوق الإنسان مؤخرًا، ولم تتسع حتى لقبورهم.

هؤلاء المناضلون الشجعان، الذين حرموا من ملذاتهم ومكاسبهم الوطنية المشروعة، وغيبوا قسرًا عن عيون شعبهم، ظلوا أوفياء ومخلصين ومناضلين ومجاهدين، حتى شاء الله سبحانه وتعالى أن يأخذ بأياديهم في جواره، شهداء أحياء يرزقون .

في العام 1979، أقدمت السلطة البحرينية على إبعاد المواطن يوسف أحمد كمال (من مدينة المحرق) بصورة قسرية، إلى الجمهورية الإسلامية الإيرانية، بذريعة أنه مواطن غير بحريني، وينتمي للجبهة الإسلامية لتحرير البحرين. وبعد سنوات قليلة سافر لطلب اللجوء السياسي في ألمانيا، وبعد حصوله على حق اللجوء بوقت قصير توفي في مدينة هامبورك، نتيجة معاناة القهر والتعذيب الوحشي الذي تعرض له في سجون البحرين، والغياب القسري عن الوطن، ودفن جثمانه في مدينة قم المقدسة.

وفي العام 1979، رحلت السلطة البحرينية حسن بهلون (من مدينة المحرق) إلى الجمهورية الإيرانية الإسلامية، بعد ملاحقته واعتقاله، وتوجيه تهمة انتسابه إلى الجبهة الإسلامية لتحرير البحرين. وبعد مكوثه لعدة شهور هناك يعاني من الغربة الموحشة والعوز المادي، سافر إلى المملكة المتحدة البريطانية باحثًا عن المأوى واللجوء السياسي. وعندما استقر في لندن تعرض لحادث تفجير في سيارة كان يقودها أحد زملائه، ما أدى إلى مقتله ودفنه هناك في العام 1981، مخلفًا وراءه عائلة كاملة لا تزال تعاني من الاغتراب و من هموم البعد القسري عن الوطن.

وفي العام 1986، قامت السلطة البحرينية بإبعاد المجاهدة (أم عمار) من جزيرة سترة، إلى الجمهورية الإسلامية الإيرانية بشكلٍ قسري وبتهمة الانتماء إلى الجبهة الإسلامية لتحرير البحرين، ومن بعدها سافرت مع زوجها إلى سوريا، وبعد مرضها الشديد سافرت للعلاج في برشلونة، بجواز سعودي مزور، ولكنها للأسف الشديد قضت نحبها هناك، ودفن جثمانها في إيران، بعد أن رفضت عواصم العالم استقبالها حتى وهي جثة هامدة.

وفي العام 1986، ألقت السلطة البحرينية القبض على الناشط السياسي والنقابي عزيز ماشاء الله، ضمن مجموعة الـ86 المعتقلين من كوادر جبهة التحرير الوطني البحرينية، وكان يمثّل المتهم الثالث في المجموعة، بعد حسن محمد حسن المحروس وأحمد عبدالرحمن الذكير، وبعد محاكمته أمام محكمة أمن الدولة ذات الطابع السياسي، برأته هذه المحكمة من كافة التهم الموجهة إليه، بعد مرور عام كامل على اعتقاله التعسفي (1987).

ولكن بدلًا  من أن تقوم بإجراءات إطلاق سراحه، استنادًا إلى قانون المحاكمات، تم إبعاده إلى إيران، من دون أن يحمل في جيبه أي وثيقة سفر رسمية. وحال وصوله إلى إيران، احتجزته السلطات الإيرانية في إحدى معتقلاتها، ثم أفرج عنه بعد عدة شهور من الاحتجاز، وغادر الأراضي الإيرانية، في محاولة غير شرعية للهروب إلى أفغانستان. وعندما فشلت المحاولة عاد مرة أخرى إلى إيران، ومن بعدها إلى سوريا، بعد أن زودته سفارة جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية في دمشق بجواز سفر يمني، بناءً على طلب من قيادة الخارج في جبهة التحرير الوطني البحرينية.

وعند وصوله إلى دمشق بقي فيها عدة شهور، وكان يعاني من أمراض التعذيب الوحشي الذي تعرض له في سجون البحرين وسجون إيران، ومحاولات الهروب الفاشلة إلى أفغانسان، وضيق العيش في سوريا، بعد أن تقاعس رفاقه في جبهة التحرير الوطني البحرينية -كما كان يقول دائمًا- عن تقديم المساعدة والعون الذي يستحقه، في ما كان الرفاق في الجبهة الشعبية في البحرين، ولا سيما من جانب المرحوم عبد الرحمن النعيمي، والنقابي محمد عبد الجليل المرباطي، يقدمون له أيادي الدعم والمساندة، التي حفظت له كرامته، ففكر بالهروب من هذا الوضع الاجتماعي والاقتصادي السيء، وسافر إلى الدنمارك، بعد أن كان قد شارك في مؤتمر عمالي في الجزائر، ممثلًا  للاتحاد العام لعمال البحرين، وذلك لتقديم طلب اللجوء السياسي هناك، وبعد عامين من حصوله على حق اللجوء السياسي، ظل يعاني من آثار التعذيب والاضطراب النفسي، والذي أدى به في النهاية إلى الانتحار من الطابق السادس في إحدى مشافي كوبنهاجن للعلاج الطبيعي، التي كان يعالج فيها. وبعد الوفاة أرسل جثمانه إلى مدينة شيراز الإيرانية حيث تم دفنه هناك بعيدًا عن أهله ووطنه.

وفي العام 1958 ألقت السلطة البحرينية القبض على المناضل علي عبدالله مدان، أحد الرواد الأوائل في جبهة التحرير الوطني البحرينية، وأحد أبرز المؤسسين للحركة العمالية والنقابية في البحرين، ومكث في سجن جزيرة "جده" مدة خمس سنوات. وبعد إطلاق سراحه، تم نفيه على الفور إلى إيران، على متن باخرة خشبية، في محاولة لتسليمه إلى جهاز "السافاك"، ولكنه نجا بأعجوبة من هذه المحاولة. وبعد عدة أسابيع أو شهور، تم تهريبه إلى قطر، وعاش في الدوحة حتى العام 1974، ثم غادرها إلى دولة الإمارات العربية المتحدة، ومن ثم إلى سوريا، وقضى في ربوعها فترة وجيزة.

وبعد مواجهته ظروف الحياة الاجتماعية والاقتصادية الصعبة هناك، طلب منه رفاقه في جبهة التحرير في دمشق أن يتدبر أمره بنفسه، نظرًا للظروف المالية الصعبة التي كانت جبهة التحرير الوطني البحرينية تواجهها في ذلك الوقت، وسافر بمعيتي لحضور مؤتمر الاتحاد الحر لنقابات العمال العالمي، المنعقد في العاصمة البولندية وارسو، بوثيقة سفر من جمهورية اليمن الديمقراطية (اليمن الجنوبي سابقًا) وليس في جيبه سوى خمسين دولارا، رفض رفاقه في جبهة التحرير الوطني البحرينية إضافة أي فلس آخر لها. وفي وارسو حاولنا أن ندبر له، بالتعاون مع بعض رفاقه في حزب تودة الإيراني المقيمين في بلجيكا، محاولة هروب إلى بلجيكا من أجل تقديم طلب اللجوء السياسي، وفي جعبته تعهد بمواصلة طريق النضال، وقد نجحت هذه المحاولة بعد جهود صعبة ومضنية، وبعد عدة شهور من دراسة طلب اللجوء الذي احتوى على سجل حافل لتاريخ الرجل السياسي والنقابي في البحرين، وتعرضه للاعتقال والتعذيب الوحشي والسجن، حصل على حق اللجوء السياسي، ولم تمضِ فترة طويلة على إقامته هناك، حتى استبد به مرضه العضال الخبيث، الذي كان يعاني منه على مدى سنوات طويلة، وفي 27 يناير/ كانون الثاني للعام 1995، توفي في مستشفى فيلوفورد في بلجيكا، وتم دفنه في 2 فبراير/ شباط 1995 بعد أن تعسر على رفاقه الحصول على تصريحات نقله إلى إيران أو أي عاصمة عربية.

خلال السنوات الأخيرة شهدت البحرين زخمًا هائلًا من الأحداث الدامية المؤلمة، راح ضحيتها كواكب من الشهداء الأبرار، وهي دون أدنى شك كانت من ثمار الزهور التي زرعها طابور الشهداء الأوائل من مختلف فصائل الحركة الوطنية والإسلامية، التي كان أعضاؤها يناضلون من تحت الأرض، وكانوا بمثابة ميادين تجارب الأجهزة الأمنية البحرينية في عمليات البطش الممنهج والقتل تحت وطأة التعذيب والتهجير التعسفي، والتي مازالت باقية ومستمرة ومن الصعب التخلي عنها، بل ولا بد أن تنتصر برغم كل الصعاب، حتى بعد رحيل من كان يدافع عن الديمقراطية والحريات والإرادة الشعبية .

 


التعليقات
التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

comments powered by Disqus