هيلاري كلينتون في "خيارات صعبة": على أمريكا أن تواجه دائمًا ضرورات تقودها إلى عقد تسويات غير مثالية كما حصل في حالة البحرين
2015-03-09 - 5:50 م
هيلاري كلينتون، خيارات صعبة
ترجمة: مرآة البحرين
مرآة البحرين (خاص): "خيارات صعبة" هي مذكرات وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة هيلاري كلينتون، نشرت في العام 2014، وتغطي فترة إدارتها لوزارة الخارجية الأمريكية من العام 2009 حتى العام 2013.
يتناول الكتاب الذي يقع في 632 صفحة، موزعة على 6 أقسام، تجربة الأعوام الأربعة التي أمضتها كلينتون في منصب وزيرة الخارجية، ذكرت فيه الكثير من القضايا الداخلية والخارجية والتحديات التي واجهتها. تحدثت في القسم الأول عن لقائها مع أوباما بعد خسارتها التصويت الداخلي للحزب الديمقراطي على بطاقة الترشح للانتخابات الرئاسية، وشغلها منصب وزيرة الخارجية في فريق أوباما بعد فوزه بالانتخابات. وفي القسم الثاني، تحدثت عن آسيا والقضايا التي واجهتها أمريكا في الصين وبورما. أما القسم الثالث، فتناولت فيه الحرب في أفغانستان وباكستان، والعمليات العسكرية ومحاولات إنهاء الوجود الأمريكي في بلد "طالبان". وخصصت القسم الرابع للحديث عن علاقات أمريكا مع دول أوروبا وروسيا وأمريكا اللاتينية وأفريقيا، وأبرز أحداث أوكرانيا والقرم. القسم الخامس هو الأكثر إثارة والأقرب إلى القارئ العربي؛ خصصته هيلاري لأحداث «الربيع العربي» والشرق الأوسط، وسياسة أمريكا تجاه الاقتتال في سوريا، وأسرار السياسة الإيرانية، والصراع الفلسطيني الإسرائيلي، والتوصل إلى هدنة بين الجانبين العام الماضي. في حين يبدو القسم السادس بمثابة مسودة برنامج انتخابي يطرح رؤية هيلاري لمستقبل أمريكا والتزاماتها تجاه الاحتباس الحراري، والقضاء على البطالة وتوفير الطاقة، وحقوق الإنسان والتكنولوجيا وغير ذلك من الأمور.
تعرض مرآة البحرين في ما يلي الجزء المتعلق بسياسة الولايات المتحدة تجاه الخليج بشكل عام والبحرين وثورتها في العام 2011 بشكل خاص:
"لعلّ أكثر أعمالنا توازنًا وحساسيةً في الشرق الأوسط كانت مع شركائنا في الخليج: البحرين، والكويت، وقطر، والسعودية، والإمارات العربية المتّحدة. فلقد طوّرت الولايات المتّحدة الأمريكيّة علاقات اقتصادية واستراتيجية وطيدة مع هذه الممالك الثّريّة والمحافظة، مع أنّنا لم نُخفِ أبدًا قلقنا بخصوص انتهاكات حقوق الإنسان، لا سيّما التّعرّض للنساء والأقلّيات، وتصدير الفكر المتطرّف.
عاشت كل الحكومات الأمريكية صراعًا مع تناقضات سياستنا تجاه الخليج. ولم تكن خياراتنا أصعب على الإطلاق من تلك التي أعقبت الحادي عشر من سبتمبر/أيلول. إذ صُدِم الأمريكيون لدى معرفتهم أنّ أصول الخاطفين التسعة عشر وأسامة بن لادن نفسه تعود إلى السّعودية، التي دافعنا عنها في حرب الخليج في العام 1991. وما كان مروّعًا أيضًا استمرار تمويل الأموال من الخليج للمدارس والمراكز التي تُدرّس الفكر المتطرّف وتُروّج له في كل أصقاع العالم.
وفي الوقت نفسه، تشاركنا هذه الحكومات الكثير من أبرز مخاوفنا الأمنية. فقد طردت السعودية بن لادن، وأصبحت قوات الأمن في المملكة شريكًا قوّيًا في القتال ضد القاعدة. وقد شاركتنا أغلبية الدول الخليجية قلقنا من تقدم إيران في صنع سلاح نووي في موازاة دعمها الشديد للإرهاب. هذه التّوترات متجذّرة في انقسام طائفي قديم داخل الإسلام: إذ تسيطر أغلبية شيعية في إيران، بينما يسود السّنّة في الدّول الخليجيّة. وتشكل البحرين استثناءً. إذ هناك، كما في العراق خلال حكم صدام حسين، أقلّيّةٌ سنّيّةٌ تحكم الأغلبية الشيعية. وفي سورية الوضع مُعاكس.
لدعم مصالحنا الأمنية المشتركة على مرّ السّنين والمساعدة على ردع العدوان الإيراني، باعت الولايات المتّحدة الأمريكية كمّيّات كبيرة من العتاد العسكري إلى الدول الخليجية، ووضعت مقر قيادة أسطولها الخامس في البحرين، ومركز العمليات الجوية القتالية في قطر، ونشرت قوات عسكرية لها في الكويت، والسعودية، والإمارات العربية المتّحدة، كما وضعت قواعدَ عسكرية أساسيّة في دولٍ أخرى.
حين أصبحتُ وزيرة للخارجية، طوّرتُ علاقاتٍ شخصيةٍ مع قادة خليجيّين على المستويين الفردي والجماعي عبر مجلس التّعاون الخليجي، وهو اتّحادٌ سياسيٌّ واقتصاديٌّ بين دول الخليج. نظمنا حوارًا بخصوص الأمن بين الولايات المتّحدة ومجلس التّعاون الخليجي لتعزيز التّعاون بيننا. وكان أغلب التّركيز مُنصبًا على إيران ومكافحة الإرهاب، ولكنّي ألححت على القادة بضرورة الانفتاح على مجتمعاتهم، واحترام حقوق الإنسان، وتوفير المزيد من الفرص لشبابهم ونسائهم.
استطعت أن أحرز بعض التقدّم أحيانًا، كما في فضيحة زواجِ طفلة في السعودية. إذ حصلت على معلومات بشأن طفلة تبلغ من العمر ثماني سنواتٍ أجبرها أبوها على الزّواج من رجلٍ خمسيني مقابل مبلغ تقرب قيمته من 13,000 دولارٍ أمريكي. رفضت المحاكم السّعودية نداءات أمّها لوقف هذ الزّواج، ولم يبدُ أن الحكومة مستعدّة للتدخّل. كنت أعلم أنّ إحراج الحكومات بإدانتها علنًا أمر له تبعات عكسية، يدفعها إلى الإصرار أكثر على موقفها. بدلًا من عقد مؤتمرٍ صحافي لاستنكار هذا العمل والمطالبة باتّخاذ الإجراءات المناسبة، بحثت عن طريقة لإقناع السّعوديين بالقيام بالشّيء الصحيح وحفظ ماء وجههم في الوقت نفسه. وبتواصلي سرًا مع السعوديين، عبر قنوات دبلوماسية، أبلغتهم برسالة بسيطة ولكن حازمة في الوقت نفسه: "أصلحوا هذا الأمر بطريقتكم الخاصة ولن أنبس ببنت شفة."عيّن السّعوديون قاضيًا جديدًا حكم بالطّلاق سريعًا. وكان هذا درسًا تعلّمته في كل أنحاء العالم وهو أنّه: في بعض الأحيان لا بد من أن يُعبّر المرء عن آرائه بشغفٍ وقوّة-وقد فعلت ذلك عدة مرّاتٍ في السّابق-ولكن أحيانًا، الطّريقة الأفضل لتحقيق تغيير حقيقي في الدّبلوماسية والحياة، تكمن في بناء العلاقات وإدراك توقيت وكيفية استخدامها.
لقد كانت ردة فعلي مختلفة على الحظر المفروض على قيادة النساء للسيارات في المملكة العربية السعودية. في أيار/ مايو 2011، نشرت ناشطة سعودية شريط فيديو على الإنترنت تظهر فيه وهي تقود سيارة، وسرعان ما أُلقي القبض عليها واحتجزت لتسعة أيام. وفي شهر حزيران/ يونيو، قادت عشرات النساء سياراتهن في المملكة العربية السعودية في تظاهرة. تحدثت مع وزير الخارجية السعودي ، سعود الفيصل، عبر الهاتف وعبرت له عن قلقي الشخصي بخصوص هذه القضية. كما أفصحت عن رأيي علنًا في ما يتعلق بهذه القضية واصفة النساء "بالشجاعات" وعبرت عن مدى تأثري بأفعالهن. وعندما احتجت مجموعة ثانية من النساء على هذا الحظر مجددًا في 26 تشرين الأول/ أكتوبر 2013، أشار بعض المعارضين زورًا إلى التّاريخ- عيد مولدي- كذبًا كدليل على تنظيم الاحتجاج خارج المملكة العربية السعودية. ولكن لسوء حظ المملكة ونسائها، ما زال الحظر مستمرًا.
عندما سافرت إلى المملكة العربية السعودية في شباط/فبراير 2010 ، قسّمت برنامج رحلتي بين محادثات أمنية مع الملك وزيارة إلى جامعة للنساء في جدة وكانت كلتا الزيارتين بارزتين بطريقتهما الخاصة.
عند وصولي إلى مطار العاصمة، الرياض، رحب بي الأمير السبعيني خريج جامعة برينستون، والذي شغل منصب وزير خارجية المملكة منذ العام 1975. وكمعظم السعوديين الذين قابلتهم، كان يرتدي تارةً بدلات مفصلة ومخاطة أوعباءة فضفاضة طويلة وغترة تارةً أخرى. قدرت قيمة قضاء وقت مع الأمير، الذي يميز جيدًا بين القوات التي تمثل التقليد والحداثة والتي تتنافس على الهيمنة في المنطقة.
أما الملك الثمانيني، عبدالله، فقد دعاني لزيارته في مخيمه الخاص في الصحراء، على بعد مسافة ساعة عن المدينة. وفي ما يشكل سابقة بالنسبة لي، أرسل الملك حافلته الشخصية الفخمة لتقلّنا. كانت الحافلة مجهزة بشكل مترف وجلست والأمير في مقاعد جلدية فخمة مقابل بعضنا البعض أثناء عبورنا المدينة. ولاحظت عددًا من المخيمات المليئة بالجِمال. ومن ثم بدأت والأمير نتحدث أحاديث فكاهية عن شعبية جِمال المملكة والتي تنبع من أسباب عملية ووجدانية على حد سواء. وناقشنا بعدها تاريخ البدو الطويل مع جِمالهم، لكن الأمير أخبرني أنه لا يحبهم شخصيًا. دُهِشت لذلك، تخيل أن شخصًا أستراليًا يكره دببة الكوالا أو أن شخصًا صينيًا يكره الباندا. وبالتالي لم أضطر لإمضاء وقت طويل مع الجِمال، فقد سمعت أنه يمكن أن يصبحوا مشاكسين.
وسرعان ما وصلنا إلى ما وصفوه لنا "بمخيم" الصحراء، وكان عبارة عن خيمة ضخمة مكيفة مبنية فوق قصر ذي أرضيات رخام وحمامات مذهبة ومحاطة بمقطورات وطائرات هليكوبتر. وكان العاهل الجليل بانتظارنا مرتديًا عباءة سوداء طويلة. وعلى عكس بعض زملائي الأمريكيين الذين يبدأون بالتحدث عن الأعمال على الفور ، أبدأ المحادثة الرسمية عادة بحوار صغير كدليل على احترامي وصداقتي، لذلك تابعت التحدث عن موضوع الجمال. قلت له: "أود من جلالتكم أن يعلم أن سموه يعتقد أن الجِمال قبيحة"، مشيرة إلى الأمير سعود. ضحك الملك قائلًا "أعتقد أن سموه لم يكن منصفًا بحق الجِمال". تبادلت الفكاهة مع الملك والامير لبرهة، وبعدها دعا الملك فريق السفر كله المؤلف من حوالي 40 شخصًا بالإضافة إلى الصحافيين للانضمام إليه في مأدبة غداء. واصطحبني إلى طاولة البوفيه التي بدت كأن لا نهاية لها. وقف مضيفان خلف الطاولة وكانت هناك عشرات الأطباق المحلية والعالمية المتنوعة؛ من لحم الضأن والأرز إلى الروبيان والباييلا. أما الصحافيون والموظفون الذين يتناولون غالبًا وجبات سريعة على الطريق، فبدا كأنهم توفوا وذهبوا إلى جنة طعام. وكان النّدّل يحومون حولنا في جهوزية تامة لإعادة ملء أطباقنا، جلست إلى جانب الملك على رأس طاولة شبه بيضاوية وفي وسطها جهاز تلفزيون ذي شاشة مسطحة عملاق، بحيث يمكن للملك مشاهدة كرة القدم وسباقات الطرق الوعرة أثناء تناول الطعام. رفع الملك صوت التلفاز عاليًا بحيث يتعذر على أحد في القاعة سماع حديثنا. ملت قليلًا تجاه الملك وبدأنا نتحدث.
أمضينا أربع ساعات سويةً عصر ذلك اليوم وخضنا في الحديث عن تحديات المنطقة؛ من إيران إلى العراق إلى الإسرائيليين والفلسطينيين. تحدث الملك بشدة عن ضرورة منع إيران من الحصول على سلاح نووي، وحثّنا على أن نكون أكثر تشددًا مع طهران. وعبّر عن أمله بالسماح للمزيد من الطلاب السعوديين بالدراسة في الولايات المتحدة، إذ أصبح الأمر أكثر صعوبة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول. كان اجتماعًا مثمرًا ودل على أن العلاقة بيننا مبنية على أسس ثابتة. الاختلافات بين ثقافاتنا وقيمنا وأنظمتنا السياسية شاسعة، إلا أن عملنا سويًا عند الإمكان يدفع مصالح أمريكا إلى الأمام.
تلقيت في اليوم التالي تذكيرًا مباشرًا بمدى تعقيد الأمر،إذ كانت والدة هما، الدكتورة صالحة عابدين، نائب عميد كلية دار الحكمة، وهي جامعة للنساء في جدة، حيث كنت قد رتبت لعقد نقاش مفتوح مع الطالبات. وأثناء دخولي إلى القاعة، رأيت حشدًا من الشابات المحجبات اللواتي غطت بعضهن وجوههن أيضًا.
تكلمت مع الطالبات عن معنى اسم "دار الحكمة" وعن مدى الحكمة من حصول كل من الفتيات والفتيان أيضًا على التعليم. واقتبست مقولة للشاعر المصري حافظ إبراهيم يقول فيها "الأم مدرسة إذا أعددتها، أعددت شعبًا طيب الأعراق". وتطرقت إلى تجربتي الشخصية مع تعليم النساء في ويلسلي. وأمطرتني الطالبات بوابل من الاسئلة التحقيقية حول كل شيء من طموحات إيران النووية الى الأزمة الفلسطينية وآفاق إصلاح نظام الرعاية الصحية في أمريكا. وسألتني إحداهن عن رأيي بسارة بايلين وعما إذا كنت سأنتقل إلى كندا في حال أصبحت سارة رئيسة. (قلت، لا، لن أهرب). قد لا يتسنى لتلك النسوة فرصة أخرى بالمشاركة علنًا في مجتمعهنّ المحافظ، إلا أن لا شيء كان يحد ذكاء تلك الطالبات وطاقتهن وفضولهن.
وطوال مدة الاجتماع، بقيت إحدى الشرطيات، التي كانت مغطاة بالأسود من رأسها إلى أخمص قدميها، ما عدا فتحتين صغيرتين للنظر، متيقظة تراقب الأمريكيين. لم تسمح لأي من الموظفين أو الصحافيين الذكور بالاقتراب من الطالبات. وأثناء اعتلائي خشبة المسرح ، اقتربت من هُما وهمست لها باللغة العربية: "أتمنى أخذ صورة معها". وعندما انتهيت أخذتني هُما جانبًا وأشارت الى المرأة المنتقبة هذه. فسألت، احترامًا لحشمتها، "هل ندخل إلى غرفة خاصة لأخذ الصورة؟" فأومأت برأسها ودخلنا إلى مكتب صغير. وبينما كنا نتحضر لالتقاط الصورة، نزعت المرأة حجابها وابتسمت ابتسامة عريضة، وبعد التقاط الصورة، أعادت ارتداءه. أهلًا بكم في المملكة العربية السعودية.
بعد حوالي عام بالتحديد، تعرضت علاقاتنا الحساسة في الخليج للتّهديد بالتفكك، إذ لم تتوقف الاحتجاجات الشعبية التي بدأت في تونس ومصر في هذين البلدين فحسب، بل امتدت المطالبة بالإصلاح السياسي والفرص الاقتصادية إلى كل أنحاء الشرق الاوسط. لم تسلم أي منطقة؛ فكادت اليمن أن تنقسم وأجبر الرئيس صالح على التنحي من منصبه. أما ليببا فانجرت إلى حرب أهلية. وحكومتا الأردن والمغرب أجرتا إصلاحات حقيقية ولكن حذرة، وفي المملكة العربية السعودية، أغدقت العائلة المالكة كرمها على الشعب عبر مساعدات مادية كمحاولة منها لاسترضائه من خلال برامج الرعايا الاجتماعية السخية.
البحرين، التي تضم القاعدة الرئيسية للأسطول الأميركي في الخليج الفارسي، كانت قضية استثنائية معقدة بالنسبة لنا. ففي هذه الدولة، الأقل ثروة بين الممالك الخليجية، اتخذت المظاهرات طابعًا طائفيًا مع احتجاج الأغلبية الشيعية ضد حكامها السنّة. وفي منتصف فبراير/شباط 2011، طالبت الحشود بإصلاحات ديمقراطية وبالمساواة لكل البحرينيين بغض النظر عن طائفتهم، فتجمعت وسط تقاطع طرق رئيسي في وسط المنامة، يدعى "دوار اللؤلؤة". أدت أحداث تونس ومصر إلى استنفار القوات الأمنية في المنطقة كلّها، بينما أدّت أحداث بسيطة استُخدِمت فيها القوة المفرطة في المنامة إلى ازدياد عدد المواطنين الغاضبين في الشارع.
عند حوالي الساعة الثالثة فجرًا من يوم الخميس الواقع في 17 فبراير/شباط، قُتِل عدد من المحتجين الذين كانوا يخيمون في دوار اللؤلؤة في مداهمة للشّرطة، ما أثار غضبًا واسعًا في الشارع. غير أن الزعماء السنة في البحرين والمناطق الخليجية المجاورة لم يروا في الاحتجاجات الشيعية اندفاعًا من أجل الديمقراطية بل رأوا فيها فقط يد إيران الخفية. قلقوا من أن عدوهم الكبير المتمركز وراء البحار كان يثير الاضطرابات لإضعاف حكوماتهم وتحسين موقعه الاستراتيجي. وبالنظر إلى سجل إيران الحافل، فقد كان هذا الخوف منطقيًا، غير أن ذلك أثر على إدراكهم لمظالم شعوبهم المشروعة وسرّع في استخدامهم للقوة ضدهم.
هاتفت وزير الخارجية البحريني، الشيخ خالد بن أحمد آل خليفة، لأعبر له عن قلقي جراء العنف وعن إمكانية إفلات الأوضاع عن السيطرة. اليوم التالي سيكون مصيريًا، وآمل أن تتخذ حكومته إجراءات لتجنب المزيد من العنف أثناء تشييع القتلى وفي صلاة يوم الجمعة، إذ أصبحت أوقاتًا لتعبئة الجماهير في المنطقة كلها. الرد بقوة على الاحتجاجات السلمية كان سيتسبب بالمزيد من المشاكل. قلت إن "هذه قراءة خاطئة للعالم الذي نعيش فيه والذي يتحول إلى محيط أكثر تعقيدًا". وأضفت أنه "أود أن تسمع ذلك مني، نحن لا نريد أي عنف يسمح بالتدخل الخارجي في شؤونكم الداخلية. ومن أجل تجنب هذا الأمر، عليكم أن تبذلوا جهدًا لإجراء مشاورات حقيقية". علمنا كلانا أن المقصود بـ"التدخل الخارجي" هي إيران. كنت أرى أن استخدام القوة المفرطة قد يؤدي إلى عدم الاستقرار الذي يمكن لإيران استغلاله، وهو الأمر الذي كانت تحاول حكومته أن تتجنبه.
بدا وزير الخارجية قلقًا وقد ضاعفت أجوبته مخاوفي، إذ قال إن عمل الشرطة لم يُخَطّط له ولام المحتجين لبدئهم بأعمال العنف ووعد بلجوء حكومته إلى الحوار والاصلاح. قال الوزير إن "هذه الوفيات مأساوية، نحن على شفا هاوية طائفية". كانت هذه عبارة تقشعر لها الأبدان. أبلغته أنني أرسلت جيفري فيلتمان إلى البحرين فورًا. "سنتوصل إلى اقتراحات ونحاول أن نكون مفيدين وفعالين خلال هذا الوقت العصيب. لا أقول إن هناك حلًا سهلًا، فموقفكم فيه تحد من نوع خاص نظرًا للمشكلة الطائفية التي تواجهونها. ولا شك لدي بأن لديكم جارًا مهمًا يهتم بهذه المسألة بطريقة غير موجودة لدى الدول الأخرى".
وبسبب الخوف من تصاعد أعمال العنف وبتشجيع من جيف، الذي أمضى الكثير من الوقت في المنامة خلال الأسابيع الّتّالية، حاول ولي العهد البحريني تنظيم حوار وطني لمعالجة بعض مخاوف المحتجّين وتخفيف التوترات التي تحيط بالمنطقة. كان ولي العهد شخصًا معتدلًا أدرك الحاجة إلى الإصلاح، وكان يمثل الفرصة الأفضل للأسرة الحاكمة لمصالحة الفصائل المتنافسة في المنطقة. كان جيف يعمل في الكواليس للتوصل إلى تفاهم بين العائلة الملكية والقادة الأكثر اعتدالًا في المعارضة الشيعية. غير أن الاحتجاجات استمرت في التزايد، وبحلول شهر مارس/آذار، طالب المحتجون بإسقاط الحكم الملكي، فازدادت حدة المواجهات مع الشرطة وكذلك أعمال العنف. بدا وكأن الحكومة كانت تفقد السيطرة وكان الأعضاء المحافظون في الأسرة البحرينية الحاكمة يضغطون على ولي العهد ليتخلى عن جهود وساطته.
يوم الأحد، 13 مارس/آذار، أفاد الملحق العسكري في سفارتنا في الرياض عن حركة غير عادية للجيش في المملكة العربية السعودية وأن هذه الوحدات قد تكون متجهة نحو البحرين. هاتف جيف وزير خارجية الإمارات العربية المتحدة، الشيخ عبدالله بن زايد، الذي أكد أن التدخل العسكري على وشك البدء. كانت حكومة البحرين ستدعو جيرانها إلى مساعدتها على إحلال الأمن في المنطقة، لكنهم لم يروا أن إبلاغ الولايات المتحدة بذلك ضروري، كما أنهم لم يريدوا أخذ الإذن منا أو تقبل أي طلب لإيقاف الأمر. في اليوم التّالي، عبرت آلاف الوحدات من القوات السعودية الحدود إلى البحرين مع حوالي 150 قافلة مدرعة وتبعها حوالي خمسمائة شرطي من الإمارات العربية المتحدة.
كنت مهتمة بهذا التصعيد وقلقة من حمام الدم الذي سيحدث في حال بدأت الدبابات السعودية بالتقدم في شوارع المنامة التي تنتشر فيها الحواجز. ولم يكن بإمكان التّوقيت أن يكون أسوأ.، في ذلك الوقت، كنا في خضم مفاوضات دبلوماسية معمقة لإنشاء تحالف دولي لحماية المدنيين الليبيين من مجزرة محتملة على يد العقيد معمر القذافي وكنا نعتمد على الإمارات العربية المتحدة ودول خليجية أخرى للعب دور أساسي. صوتت جامعة الدول العربية في 12 مارس/آذار على طلب مجلس الأمن الدولي فرض حظر تجول جوي في ليبيا، ومشاركتهم في أي عملية عسكرية قد توفر الشرعية في المنطقة وإلا فلن يتمكن المجتمع الدولي من التّدخل. بعد العراق وأفغانستان، لن نخاطر بالظهور كأننا نبدأ تدخلًا غربيًا آخر في بلد إسلامي.
كنت في باريس لإجراء اجتماعات بشأن ليبيا، وكذلك عبدالله بن زايد، فاتفقنا أن نلتقي في الفندق الذي أنزل فيه. وفي طريقه، سأله مراسل صحافي عن الوضع في البحرين، فاجاب "طلبت منا حكومة البحرين بالأمس إيجاد طرق لمساعدتها في نزع فتيل التوتر". كنت قلقة من حصول العكس. وفي اليوم التالي، أعلن ملك البحرين حالة الطوارئ (فترة السلامة الوطنية). تحدثت إلى وزير الخارجية السعودي وألححت عليه لإيقاف استخدام القوة لإخلاء المحتجين. وقلت له: أعطِ جيف بعض الوقت لإنجاح المفاوضات، فمن شأن أربع وعشرين ساعة أن تحدث فرقًا. كنا قد شارفنا على الاتفاق مع الحزب الشيعي السياسي الرئيسي للخروج من المناطق الرئيسية في المدينة مقابل تأكيد الدولة على حق الاحتجاج السلمي وبدء حوار بنية حسنة. كان سعود الفيصل عنيدًا، وقال إنه على المحتجين الذهاب الى منازلهم وترك الحياة تستمر، عندها فقط يمكن لنا التحدث عن اتفاق. وقد لام إيران لإثارتها المشاكل ودعمها المتطرفين. وأضاف أنّه قد حان الوقت لإنهاء الأزمة وإعادة الاستقرار إلى الخليج.
في 16 مارس/آذار، كانت قوات الأمن قد أخلت دوار اللؤلؤة، فحصل اشتباك بين المحتجين وقوات مكافحة الشغب المدعومة بالدبابات وطائرات الهليكوبتر. استخدمت قوات مكافحة الشغب الغاز المسيل للدموع آنذاك لإجبار المتظاهرين على إخلاء مخيمهم المؤقت. قتل خمسة أشخاص. أجج وصول القوات السعودية وهذا القمع الجديد الرأي العام الشيعي أكثر في المنطقة. وبسبب ضغط المتشددين من الطرفين، فشلت المفاوضات بين ولي العهد والمعارضة.
كنت في اجتماع القاهرة مع السلطات الانتقالية المصرية وأرعبتني التقارير الآتية من البحرين. وفي مقابلة مع بي بي سي، تحدثت بصراحة عن مخاوفي و قلت إن "الوضع في البحرين مثير للقلق". " أضفت أننا "طلبنا من أصدقائنا في الخليج - أربعة منهم يساعدون البحرين في جهودها الأمنية - شق الطريق أمام قرار سياسي وليس مواجهة أمنية".
سألتني كيم غطّاس، مراسلة الـ "بي بي سي": "ما النفوذ الذي بقي لديكم على دول كالبحرين والمملكة العربية السعودية؟ إنهم حلفاؤكم وأنتم تدرّبون جيوشهم وتمدونهم بالسلاح. وحتى عندما قرر السعوديون إرسال قوات إلى البحرين مع العلم أن واشنطن لم تكن راضية حيال الأمر - قالوا "لا تتدخلوا. هذا شأن داخلي يتعلق بمجلس التعاون لدول الخليج". كان الأمر صحيحًا ومحبطًا.
أجبتها: "حسنًا، هم يدركون رأينا حول الأمر وسنعمد لإيضاحه في السر والعلانية وسنعمل ما بوسعنا لنغير هذا المسار الخاطئ والذي سيضعف بالتأكيد تقدم البحرين على المدى الطويل. سنحول الأمور إلى مسارها الصحيح الذي يتمثل في المسار السياسي والاقتصادي".
كان يمكن لهذه الكلمات أن تبدو منطقية، وكانت كذلك، إلا أنها كانت موجهة على نحو يتجاوز المستوى المعتاد في حديثنا عن دول الخليج. سُمِعت رسالتي بوضوح في الخليج وشعر حلفاؤنا في الرياض وأبو ظبي بالغضب والإهانة.
في 19 مارس/آذار، عدت إلى باريس لأضع اللمسات الأخيرة على قوات التحالف في ليبيا ومع تضييق قوات القذافي الخناق على معاقل المتمردين، كان دعم الأمم المتحدة للضربات الجوية وشيكًا. تحدثت مرة أخرى مع عبدالله بن زايد وأكدت على التزام أمريكا بشراكتنا تمامًا كما فعلت شخصيًا. ساد الصمت على الهاتف وانقطع الاتصال. فتساءلت هل أصبحت الأمور سيئة لهذه الدرجة؟ ثم أعيد الاتصال بيننا. سألته حينها، "هل سمعتني؟" فأجابني: "كنت أستمع إليك". "كنت أتكلم وأتكلم ومن ثم ساد صمت، ففكرت في الذي فعلته" ضحك عبدالله ومن ثم عاد إلى الجدية ليصدمني بقوله: "بصراحة إنه من الصعب أن نشارك في عملية أخرى عندما تتم مساءلة وضع قواتنا المسلحة في البحرين من قبل حليفنا الأساسي". بكلمات أخرى، عليكم نسيان أمر المشاركة العربية في بعثة ليبيا.
كان الأمر يتحول إلى كارثة وكان علي أن أصلحه بسرعة، ولكن كيف؟ لم يكن هناك خيارات جيدة في هذا المجال، لقد ألزمتنا قيمنا وضميرنا بإدانة الولايات المتحدة للعنف الذي كنا نشهده ضد المدنيين في البحرين. في الواقع، كان هذا المبدأ الأول للتحرك في ليبيا ولكن إن طلبنا من التحالف الدولي المُنشَأ بعناية التوقف، قد ينهار القذافي في وقت متأخر وقد نفشل في تجنب حدوث انتهاك أكبر- مجزرة كاملة.
أخبرت عبدالله بن زايد أني أردت التوصل إلى تفاهم بناء فسألني إن كنا نستطيع أن نلتقي شخصيًا وقال: "أنا أصغي إليك الآن ونحن نريد إيجاد حل للمشكلة. أنت تعرفين أننا متحمسون للمشاركة في ليبيا".وبعد ساعات قليلة، وتحديدًا في تمام الساعة السادسة مساءً، جلست معه وأخبرته أنه يمكنني صياغة بيان بحيث يبقى متوافقًا مع قيمنا وغير مهين لهم. أملت أن يكون هذا كافيًا لإقناع الإمارات بإعادة الانضمام إلى بعثة ليبيا وإن لم يكن كافيًا فنحن مستعدون للمضي قدمًا من دونهم.
عقدت مؤتمرًا صحفيًا تلك الليلة في منزل سفير الولايات المتحدة في باريس وتحدثت عن ليبيا وشددت على كون القيادة العربية في الحملة الجوية أساسية ومن ثم انتقلت للتحدث عن البحرين: "هدفنا هو عملية سياسية ذات مصداقية تستطيع معالجة التطلعات المشروعة لجميع البحرينيين بدءًا بحوار ولي العهد الذي يجب أن ينضم إليه جميع الأطراف". وتابعت أنّه كان من حق البحرين دعوة القوات من الدول المجاورة وتلقينا وعدًا من دول الخليج بأنهم سيؤمنون مساعدات رئيسية للتطور الاقتصادي والاجتماعي. وأكملت بالقول إننا "قد أوضحنا أن الأمن بمفرده لا يستطيع حل التحديات التي تواجهها البحرين. الحل لم يكن ولن يكون بالعنف بل بعملية سياسية. لقد أبدينا قلقنا حول الإجراءات الحالية مباشرةً أمام مسؤولين بحرينيين وسنستمر بفعل ذلك".
لم يكن هناك اختلاف كبير على مستوى اللهجة أو المحتوى عما قلته في القاهرة، وشعرت بالارتياح لكوننا لم نضحِّ بقيمنا أو مصداقيتنا. قلة من المراقبين الخارجيين، في حال توفرهم، لاحظوا أي اختلاف، هذا إن لاحظه أحد. وسرعان ما حلقت الطائرات العربية فوق ليبيا.
تمنيت لو كان لدينا خيارات أفضل في البحرين وتأثير أكبر للتوصل إلى حل إيجابي واستمررنا بالتحدث في الأشهر التّالية، مشددين على أن الاعتقالات الجماعية والقوة المفرطة يتناقضان مع الحقوق العالمية للبحرينيين ولن يسمحا بنجاح الإصلاحات المشروعة. كما تابعنا عملنا الوثيق مع حكومة البحرين ودول الخليج المجاورة لها على عدد من القضايا.
وفي تشرين الثاني/ نوفمبر 2011، في خطاب في المعهد الديمقراطي الوطني في واشنطن، أجبت على بعض الأسئلة التي أثيرت بشأن أمريكا والربيع العربي. وكان أحد الأسئلة التي نسمعها غالبًا: لماذا تختلف طريقة أمريكا في تعزيز الديمقراطية بين البلدان؟ باختصار، لماذا ندعو مبارك إلى التخلي عن السلطة في مصر ونحشد قوات عسكرية لإيقاف القذافي في ليبيا، بينما نبقي على العلاقات مع البحرين والممالك الخليجية الأخرى؟
بدأت جوابي بنقطة عملية جدًا مذكرة بأن الظروف تتغير بشكل كبير بين بلد وآخر وأنه "سيكون من الغباء التّصرف بالمنهج ذاته مع جميع الدول والمضي قدمًا بغض النظر عن الظروف الراهنة".
فالأمر الذي كان ممكنًا ومنطقيًا في مكان، بدا غير ممكن أو حكيم في مكان آخر. وقلت أيضًا إنه صحيح أن أمريكا لديها الكثير من المصالح الوطنية في المنطقة، وأنها لن تسير بطريقة مثالية على الرغم من جهودنا الدؤوبة. أضفت أنه "علينا أن نقوم بالكثير من المهام في الوقت عينه". كان الأمر صحيحًا في حالة البحرين، سيكون دائمًا لدى أمريكا شركاء غير مثاليين ينظرون إلينا، بكل تأكيد، على أننا غير مثاليين أيضًا وعلينا أن نواجه دائمًا ضرورات تقودنا إلى عقد تسويات غير مثالية".
- 2024-08-19"تعذيب نفسي" للمعتقلين في سجن جو
- 2024-07-07علي الحاجي في إطلالة داخلية على قوانين إصلاح السجون في البحرين: 10 أعوام من الفشل في التنفيذ
- 2024-07-02الوداعي يحصل على الجنسية البريطانية بعد أن هدّد باتخاذ إجراءات قانونية
- 2024-06-21وزارة الخارجية تمنع الجنسية البريطانية عن ناشط بحريني بارز
- 2024-03-28السلطات البحرينية تعتقل ناشطًا معارضًا على خلفية انتقاده ملكية البحرين لماكلارين