» رأي
مستشفى السلمانية: حكاية احتلال لم تحدث
قاسم عمران - 2011-11-29 - 10:12 ص
قاسم عمران*
يبدو أن على حكومة البحرين أن تجتمع وتقررتغيير تعريفها لاحتلال المباني بعد أن بادرت إلى تغيير تعريف التعذيب ضمن مصطلحات قاموسها السياسي للاستبداد. ذلك إنه رغم إصرار العالم المتحضر على ان سلطات البحرين كانت تمارس التعذيب منذ عقود من الزمن وكانت هذه السلطة تنكره حتى اسابيع خلت، استفاقت اليوم وربما الأصح تظاهرت بالصحوة هروبا من الضغط الدولي والحقوقي لتكتشف أن ممارساتها اللإنسانية ضد المعتقلين كانت تسمى تعذيبا وبناء عليه فإنها ستعيد تعريف التعذيب. نقول هذا ونحن اليوم نشهد محاكمة 20 من الطواقم الطبية من ضمنهم ست نساء بتهمة احتلال مجمع السلمانية الطبي لمدة شهر كامل.
ولتقريب الصورة للقارئ الكريم نعطي توصيفا أوليّا للمجمع الطبي، وهو المستشفى الرئيسي في الدولة.
هذا المستشفى الذي يضم جامعة الخليج العربية وكلية الطب فيها وكذلك يضم كلية العلوم الصحية وبمساحتة التي تزيد على 2.5 مليون متر مربع وبمداخل رئيسية للسيارات، وما لا يقل عن اثنتي عشرة بوابة لدخول الزوار والمراجعين لمبنى المجمع الطبي في جهاته الأربع ويزوره الآلاف من المرضى وأهاليهم كل يوم ويداوم فيه ما لايقل عن عدد 5000 موظف وعامل. وفيه قسم كبير للأمن والحماية ومتواصل مع وزارة الداخلية ويسهرعلى مداخله ومخارجه ويسيّر دورياته في جنباته وتحميه كاميرات المراقبة التلفزيونية مع حفظ التسجيل لعدة أسابيع للمعاينة فيما لو حصل مايستدعي المراجعة الأمنية.
وللقارئ أن يتصور ماتحتاجه اي عصابة محترفة من الرجال والفتوات الأشداء لإحكام سيطرتهم على مثل هذا المرفق مع ما يتطلبه من إجراءات لوجستية وإمدادات عدة وعتاد، للتمكن من السيطرة أولا واستمرار التحكم والبقاء في المواقع والتخندق لثلاثة أيام من السيطرة، فضلا عن أن يكون ثلاثين يوما من الاحتلال والسيطرة. منطقيا على هذه العصابة أن تتعامل مع الحراسات والأمن في المجمع، وأن تتصرف مع عدد 5000 من الموظفين بما فيهم الإداريين وتفكر في كيفية احتجازهم. وعليها أن تتصرف مع أكثر من ألف مريض يرقدون في المستشفى، وكيف ستتصرف مع أهاليهم القلقين على هؤلاء المرضى وكيف ستتعامل مع المئات من المرضى الذين يراجعون المستشفى وسيمنعون من دخوله.
ولكن الأهم هو أنّ عليها أن تستعد لمواجهة أمنية شرسة بماتعنيه تلك الكلمة من معنى من فتك دولة لم ترحم العزل من الناس الأكثر سلمية في مطالبهم، فما بالك وهي ترى عصابة تسيطر على المستشفى الرئيسي للبلاد ومايعنيه من زوال هيبتها! وباعتبار نوعية الحدث وجسامته إعلاميا، فلن يفوت رصده ومتابعته حتى من النائم وسيتلمّس ارتداداته السريعة على مجتمع المرضى ومحتاجي العلاج حتى المتبلد حسيّا.
وللمرء أن يتصور القدرة الأسطورية لدى هؤلاء العشرين من الطواقم الطبية (ست نساء و أربعة عشر رجلا) ليتمكنوا من السيطرة على هذا المستشفى الحيوي لمدة ثلاثين يوما دون سابق نيّة، وفي نفس الوقت تقوم هذه الطواقم بأداء التزاماتها المهنية وواجباتها الأكلينيكية تجاه مرضاها في العيادات الخارجية او مع المرضى الداخليين التي تحت رعايتها، والقيام بالمهام الإدارية للإداريين منهم. كما لايفوتنا التذكير بأن هؤلاء المتهمين كباقي خلق الله، كان عليهم التزامات عائلية وينامون الليل في بيوتهم تاركين المستشفى ومرضاه في رعاية الله طيلة شهر الاحتلال المزعوم، ماعدى أيام مناوبتهم أثناء المواجهات التي تتدفق فيه الجرحى على المستشفى.
الأغرب أن بعض المتهمين بالسيطرة على المستشفى لم يتواجدوا في المستشفى الذي هم متهمون باحتلاله أصلا وبعض منهم كان اغلب الوقت من شهر الاحتلال المزعوم خارج البحرين!!! ولكن للنيابة العامة والقضاء العسكري في المواطنين الأحرار شئون. وخلافا للقاعدة الذهبية أن الأصل في القضاء هو براءة المتهم وأن "البينة على من ادّعى واليمين على من أنكر" نرى أن النيابة والقضاء يجعل الأصل هو اتهام الطواقم الطبية وعليها أن تنفي التهمة بدل أن تقدم النيابة دليلا غير شهود زور ذوي مصلحة واضحة في الاتهام.
ولعل من المفارقة الغريبة حقا أن السلطة وهي تتهم العشرين باحتلال المستشفى، سكتت على من تتهمهم شهرا ولم تتدخل! وهي التي لم تتحمل تظاهرة سلمية في جامعة البحرين فعالجتها بهجوم شرس ودام من قبل بلطجييها لتقمع وتجرح لمنع مسيرة سلمية داخل الجامعة. ومثلها عملت المستحيل لتعيد فتح تقاطع مرفأ البحرين المالي مع شارع الملك فيصل بعد إعاقة الحركة فيه لسويعات من قبل المتظاهرين عند هذا التقاطع. فما بال السلطة كيف سمحت باحتلال المستشفي الرئيسي (بحسب ادعائها) لمدة ثلاثين يوما من دون حتى ان يكون موضوع الاحتلال المزعوم موضوعا في الحوار غير المباشر مع بعض أطراف المعارضة كموضوع إخلاء الدوّار. وهي كذلك لم تقم بردة فعل أمنية لتؤكد سيادتها على الممتلكات العامة ولم تخرج حتى بتصريح رسمي غير الضجيج الإعلامي المرتجل والغرائزي ضمن سياق إطلاق العنان للبذاءة الذي صاحب الحملة على الأطباء والطواقم الطبية والتي أتت في سياق التحشيد الطائفي وشق الصف الوطني التي اعتمدته السلطة لإيقاف المدّ الجماهيري المتصاعد بعد فشلها الأمني الذريع في الأيام الخمس الأوائل من بدء ثورة فبراير.
كما أنه من الملاحظ أن الآلاف المؤلفة من المرضى ومرتادي المستشفى والتي كانت تراجع المستشفى للعلاج خلال الثلاثين يوما من الاحتلال المزعوم، لم تتذمر ولم تتضرر من السيطرة المزعومة للأطباء على المستشفى باستثناء حالات (لم توثق من أطراف محايدة) لاتتجاوز أصابع اليد الواحدة دبّر لها النظام إخراج درامي لتجييش العواطف خدمة لهدفه في إحداث الشق الوطني وتعميقه من خلال الضرب على الحس الطائفي.
كما أن من عجائب احتلال المستشفى المزعوم هو أن الطواقم الطبية المحتلة لم تمنع دخول وخروج وكيل الصحة د. عبدالحي العوضي وهو رأس حربة النظام وأشد الإداريين المعارضين تجاه الحراك الثوري وأحد أبرز المسؤولين المتهمين بالتواطئ مع الأمن لمنع الإسعاف من إنقاذ المتظاهرين الجرحى، ومع أن الطواقم الطبية طالبت بإقالته ولكنها لم تعترض سبيله في الدخول والخروج من المستشفى وكان يتابع ويعقد اجتماعاته في المستشفى بشكل يومي. فكيف ستسمح مجموعة ذات سيطرة للمتسبب بالأزمة بممارسة هواياته ومؤمراته دون أن تعترض سبيله او سبيل طاقمه الإداري؟
وبينما ملأ الإعلام الرسمي ومرجفيه الفضاء ضجيجا بأوهامهم حول بدعة احتلال المستشفى بعشرات البرامج والمقابلات ومئات المقالات فانه فشل في إبراز صورة واحدة من اي مخلوق كان في عالم اليوم المليء بأدوات التوثيق بالصور والفيديو او حتى من تسجيلات الدائرة التلفزيونية المغلقة والتي يسيطر عليها أمن المستشفى والمنتشرة كاميراتها على بوابات المجمع وتسجل الحركة دخولا وخروجا.
وللتأريخ فإن تهمة الاحتلال في صيغتها القانونية لم يعلم بها الأطباء الا أثناء مثولهم الأول امام القضاء العسكري بعد شهور من احتجازهم ضمن ماصاغه خيال كاتب سيناريو قضية الطواقم الطبية وهي قصة لا أصل لها على أرض الواقع ولاتمت للحدث والوقائع بصلة غير شهوة الانتقام واستطرادا لغريزة الإقصاء المتأصلة في بعض التنفيذيين انسجاما واتساقا واستكمالا لمخطط الإحلال والاستحواذ وخدمة لأغراض سياسية وأخرى غير مهنية.
ومن المدهش ايضا أن القوى الأمنية بعد سيطرة الجيش اكتشفت عدد من سكاكين المطبخ وبعضها مذهب في خزينة تابعة للمطبخ!! ضمن ما اكتشفته من اسلحة وعتاد حصرا في عدد اثنين كلاشنكوف في مخزن في جناح عام للمرضى ولكن بدون ذخيرة!! ورغم أنه لا توجد اي بصمة على السلاح المزعوم إلا أن القوى الأمنية استطاعت اثبات صلته بالأطباء ومايدريك لعلها بصمات الرجال المتفتقة عقولهم بالمؤامرات البوليسية.
ولمن أراد الحقيقة، فباستثناء أيام المواجهات الأمنية مع المتظاهرين في مناطق البحرين، يشهد قسم الطوارئ بعض الإرباك والاصطراب وهو متوقع مع هياج العواطف وتعالي الانفعال حين وصول الجرحى للطوارئ. وماعدى ذلك فالأمور تجري على طبيعتها ونسقها اليومي داخل المستشفى. والمراجعون يحصلون على احتياجاتهم ومبتغاهم، والعيادات الخارجية تعمل كالمعتاد، والعمليات تنفذ كما هو معتمد، وأقسام التخدير والعناية المركزة تؤدي مهامها بشكل روتيني، والطوارئ يستقبل حالاته كما اعتاد وأطباؤه في مكاتبهم وغرفهم. نعم قد يكون قد حصل بعض انخفاض في عدد المراجعين سواء في العيادات الخارجية او الطوارئ ولكنه لأسباب الوضع الأمني والأجتماعي الذي تشهده البلد وهو مستمر حتى اليوم، وساهم في مفاقمته بشكل كبير ومؤثر عملية التخويف والتحذير من الذهاب للمستشفى والتي قادها الإعلام الرسمي من إذاعة وتلفزيون وصحف بغرض الإساءة للأطباء وتشويه سمعتهم وشيطنتهم. ولم يكن هذا الانخفاض المحدود بسبب الأطباء أنفسهم وليس لأن هناك حتلالا كما حاول البعض التسويق للاحتلال.
وكذلك كان رؤساء الاقسام ومرؤسيهم من الأطباء يداومون كالمعتاد. والاجتماعات الادارية والمهنية الأكاديمية تعقد كما هو مقرر باستثناء استحداث عدد من الاجتماعات مع المسؤلين التي طرأت بسبب مستجدات الأحداث في البلد وكجزء من الاستعداد لمواجهة الأزمة طبيا.
وكان هناك اكثر من 5000 طبيب وصيدلاني وممرض ومسعف ومهندس وفني وموظف وكاتب يعملون في هذا المستشفى يداومون صباحا وينصرفون ظهرا بما فيهم الطواقم الطبية المتهمة باحتلال المستشفى. ومنهم ايضا وكيل الصحة د. العوضي ووكيل الصحة المساعد لشئون المستشفيات د. الساعاتي ورئيس الاطباء د. العوضي ونائبته والرئيس التنفيذي للمستشفى د. المانع وباقي الطاقم الاداري وعلى من يدعي غير ذلك فليأتي بسجل الغياب والحضور لجميع الموظفين أثناء شهر الاحتلال المزعوم.
هذا إضافة للصحفيين والمراسلين والمندوبين الإعلاميين الذين كانوا يغطون الاحداث في البحرين وكانوا يتمتعون بحريّة حركة كافية للرصد، وقد رأوا بأعينهم البوابات المفتوحة وغير المحاصرة ولو حدث أن أحسوا بأي قيود على اي حركة ضمن المستشفى او اي تحرك يشم منه سيطرة غير تلك التي تفرضها الدولة لكان ذلك سبقا صحفيا لن يفوتوه في مرحلة كانوا يحاولون من خلالها تلمس معالم اتجاهاة الثورة وأبعادها.
وهم بالطبع لن يتغافلوا عن سيطرة موهومة على مستشفى دمغت بها عقول أزلام السلطة دون أن يستقصوا عنها ويقلبوها مع من ادّعوها من رجالات السلطة ليظهروها للمتابعين في العالم. وفي الحقيقة، لربما انطلت هذه الكذبة البواح على السذّج من موالاة السلطة ومطبليها وربما ركب موجها بعض المتملقين والانتهازيين الذين رأوا فيها فرصة لنيل المنافع، ولكنها بالتأكيد لن تمر على من لديه عين ترى وعقل يفقه به ماتعنيه مثل هذه الأراجيف والحيل.
ولمن أراد بعض من خلفيات الحقيقة، فالمستشفى مرّ بخضّة إدارية أظهرت فشل الإدارة الحالية في مواجهة الأزمة إداريا وطبيا وكشف كثيرا من المستور الممقوت. ولم يكن هذا الفشل ببعيد على إدارة بنيت على اسس غير مهنية وعلى الولاء السياسي وليس على الأهلية والكفاءة وتقدمت فيه الروابط على الضوابط. وهي المرّة الأولى التي توضع خطط الصحة على المحك حيث ورغم ما مرّ على البحرين من كوارث فإن جميعها لم تختبر فاعليتها على اعتبار أن الضحايا ينتهي أمرهم بموتهم في مواقعهم. لقد كان طبيعيا أن تهرب الإدارة العليا في الصحة بمن فيها الوزير الأسبق ووكيله للأمام وخصوصا بعد تورطهما بقضية منع الإسعاف من إخلاء الجرحى وهي جريمة يعاقب عليها القانون الدولي، وكان السبيل الوحيد هو الانتقام من هذه الطواقم الطبية، أملا في نسيان الجريمة الأساس التي ارتكبت بحق الجرحى. ولعله لم يكن مستغربا أن يكون شهود إثبات الاحتلال المزعوم ضد الطواقم الطبية هم أعضاء نافذين ضمن هذا الطاقم الإداري.
لقد قامت الطواقم الطبية الشجاعة بما يملي عليه ضميرها من واجب في علاج جرحى المظاهرات طبقا للأعراف الإنسانية وضمن الضوابط المهنية وبذلت ما تستطيع وضمن ماهو متاح من إمكانياتها في هذا الاتجاه.
وثمة وجه آخر للحقيقة، إذ بعد سيطرة الجيش على المستشفى وإدارته من قبل العسكر، قد مرضت فيه الصحة واضطرب فيه نبض الطب وكتب في سجلاته أن الدولة اعتزلت الحياد الطبي وبادرت بالتطهير المهني وتلك قصة أخرى نسردها فيما بعد.
*طبيب بحريني، مقيم في الخارج.