آلام الخواجة كما يرويها محاميه (2-4)
2012-03-27 - 2:01 م
مرآة البحرين (خاص): دخلت غرفة التحقيق، مر في طريقي كرسي يقابل مكتب المحقق فقط، قصدت المحقق وسلمت عليه، ثم درت بوجهي لذلك الكرسي.
4 كراس فقط كانت في ذلك المكتب المجهز حديثا، وعلى شكل الأفلام الأجنبية كان وضع ذلك الكرسي غريبا جدا، كان منفردا ويواجه مكتب المحقق فقط، وكان الرجل الذي يجلس فيه مطأطئاً برأسه ومحنيا ظهره، كانت ملامح وجهه مختفية، كان وجها مخسوفا معوجا، أثر عظام خديه كان بارزا، وفكه متدل إلى الأسفل. تذكرت فجأة أنني كنت أبحث عن عبد الهادي الخواجة!
4 كراس فقط كانت في ذلك المكتب المجهز حديثا، وعلى شكل الأفلام الأجنبية كان وضع ذلك الكرسي غريبا جدا، كان منفردا ويواجه مكتب المحقق فقط، وكان الرجل الذي يجلس فيه مطأطئاً برأسه ومحنيا ظهره، كانت ملامح وجهه مختفية، كان وجها مخسوفا معوجا، أثر عظام خديه كان بارزا، وفكه متدل إلى الأسفل. تذكرت فجأة أنني كنت أبحث عن عبد الهادي الخواجة!
المحامي محمد الجشي مؤرخا لأبشع حالة تعذيب شهدها في حياته
أبو حقوق الإنسان
أول مرة رأى فيها المحامي محمد الجشي داعية حقوق الإنسان البحريني عبد الهادي الخواجة كانت في اعتصام أمام مبنى وزارة الداخلية (القلعة) عام 2000، أشار له الناشط نزار القارئ وقال للجشي "انظر.. هذا أبو حقوق الإنسان في البحرين"
كان محمد الجشي طالبا في كلية الحقوق، واعتقل في قضية الاعتصام الذي جرى داخل مطار البحرين عام 2006 للمطالبة بالإفراج عن رجل الدين الشيعي الشيخ محمد سند. تولى عبد الهادي الخواجة حملة الدفاع عن معتقلي هذه القضية، وحكمت المحكمة ببراءة الجشي.
"عبد الهادي ربّاني وصنع مني محاميا" بنبرة هادئة متألمة، يتحدث محمد الجشي. منذ ذلك الوقت أصبح الجشي صديقا مقربا للخواجة، ومن ثم محامي مركز البحرين لحقوق الإنسان، وعضو مجلس إدارته، وكذلك عضوا في مختلف لجان الدفاع واللجان الأهلية التي أشرف عليها الخواجة.
ود كبير، يجمع بين الجشي وعبد الهادي وكذلك مركز البحرين لحقوق الإنسان "كان يدافع عن حقوق الإنسان بكل مهنية وشفافية، كان صريحا جريئا، وكان معلما" يتأسف الجشي لأنه لم يستطع أن ينضم بشكل رسمي للمركز قبل أن ينحل!
"علمني الخواجة أن أوظف الآليات الدولية في الدفاع أمام المحاكم المحلية، وصقلني من الناحية الحقوقية. أعطاني الثقة بأن أتولى أكبر القضايا الموجودة".
ارجع حالا
في العام 2008 غادر الخواجة للعمل في منظمة فرونت لاين الدولية. قال الخواجة لزملائه إن المركز وصل لمستوى عال من النضج والحرفية، وإنه على ثقة كبيرة بأن كوادره قادرة جدا أن تمضي في تحقيق أهداف المركز.
فبراير 2011، اتصل عدد من الشباب بعبد الهادي الخواجة، وقالوا له "كل التضحيات ستذهب هباء وستضيع القضية إن لم ترجع الآن، الكل يحتاجك هنا، ويجب أن تكون موجودا" لم تقبل المنظمة استقالته، لكنه لم يتحمل فقدم لهم إشعارا بأنه مغادر خلال أيام.
قضى الجشي مع الخواجة العديد من ساعات الحرية في دوار اللؤلؤة كل يوم، كان يعترض على رفع شعار إسقاط النظام، وكان الخواجة يزين له هذا الاختلاف بين الناس في سقف المطالب السياسية ويجد أنه يبث روحا أقوى في هذا الحراك التاريخي.
ينقل الجشي أن أكثر ما كان يشدد عليه الخواجة هو السلمية، وأن ذلك كان بالنسبة له المفتاح الوحيد للنصر وأي خيار آخر كفيل بإفشال الحركة في نظره.
"كان الخواجة يرى بأنه من الطبيعي أن يكون خيار الحوار مطروحا" أحد مبادئ الخواجة في العمل إيمانه بالحوار كوسيلة لتحقيق أهداف الحركة، لكنه كان يرفض حوارا دون مقدمات وظروف وضوابط ومعايير تضمن له أن يكون منتجا.
لا يقرّب عبد الهادي أي شخص له بسهولة، يقوم بذلك تدريجيا وبحذر. لكن الجشي دخل إلى قلب الخواجة بعمق وصار ثقته المطلقة، حتى أنه تحدى النيابة العسكرية ولم يتحدث في التحقيق بأي شيء حتى يحضر الجشي "محاميه الخاص" لا أي محام آخر.
لقد كان هو
"حتى حين دققت النظر لم أتأكد أنه هو، لم أستطع أن أصدق، لم أعرفه إلا حينما تحدث. رفع رأسه، وابتسم، كان سعيدا جدا، لم أتمالك نفسي، لم أستطع أن أحضنه، كنت سأبكي"
كان شعره متساقطا، آثار الكدمات خلقت له شكلا آخر تماما. بذل جهدا كبيرا ليستطيع أن يفتح فمه، تكلم بنبرة خافتة، لكن معنوياته كانت مرتفعة جدا "أنا تأثرت نفسيا مما رأيته فيه، ولكنه كان غير مبال، لقد كان الخواجة أستاذ الصمود"
لكن الجشي كان أيضا سعيدا، لأنه دخل إلى المكتب وكل ما يتمناه أن يرى الخواجة وهو على قيد الحياة، لم ترعبه الرحلة الطويلة التي قضاها وهو معصب العينين داخل سيارة عسكرية، ولم يلتفت إلى رهبة المكان المجهول الذي دخله وحيدا بين كل هذه القوات وعناصر المخابرات والأمن، كان شغله الشاغل هو عبد الهادي!
بصفته محاميا حقوقيا، مرت على الجشي عشرات الحالات من التعذيب والانتهاكات، لكن لأول مرة يرى حالة مثل هذه، بحيث أنه لم يستطع التعرف على المتهم. لقد كان ذلك أبشع منظر مر عليه في حياته كما يصف.
تفاصيل الألم
يؤكد الجشي بأن حالة الخواجة كانت من بين الحالات القياسية التي اختار البروفيسور بسيوني عرضها على أطباء شرعيين دوليين، للخروج بتقرير عن ادعاءات التعذيب في السجون البحرينية فترة السلامة الوطنية.
لم يكن يستطيع أن يمضغ الأكل من الكسور التي كانت في فكه، كان الماء ينسكب من فمه حين يشربه، كان يلين الطعام بالماء حتى يبلعه دون مضغ. في سياق درامي، وبعد عام من اعتقاله، لن يحتاج الخواجة إلى كل هذا الجهد حتى يصمد، وضعه والمرحلة التي تمر بها البلاد تسمح له بأن يكون الآن مضربا عن الطعام لأكثر من 45 يوما، ولذات الأهداف التي عذب من أجلها.
طلب الجشي الالتقاء بموكله بعد جلسة تحقيق دامت 10 ساعات. كان الخواجة يريد أن يطمئن على عائلته وخصوصا ابنته زينب، كان يخشى عليها جدا لكثرة ما هدد فيها، وكانوا قد أخبروه بأنها مضربة عن الطعام، ليضغطوا عليه أكثر. طلب الخواجة من الجشي أن يوصل لها طلبا خاصا منه لتفك الإضراب!
17 يوما قضاها الخواجة وحيدا في زنازن الموت، كانت وجبات التعذيب تخفف عن الجميع إلا هو "يتدرب الحقوقيون على تلقي التعذيب والضرب بمزيد من الصمود" استمر اللقاء بينهما 15 دقيقة، ودعه الجشي وداعا حارا، وخرج وهو يحمل هما كبيرا سيظل يعيش فيه عاما كاملا، ولا ينتهي!
تفاصيل وجه الخواجة الغائبة
في 28 إبريل تلقى الجشي مكالمة من النيابة العسكرية: عبد الهادي الخواجة يطلبه أن يحضر التحقيق معه، بعد ساعة كان في الرفاع، أخذته سيارة مظللة بالكامل إلى حيث لا يعرف. استغرقت الرحلة ساعة من الزمن.
كان ذلك بعد 21 يوما من اعتقال الخواجة الذي لم يكن له شبيه في وحشيته، حتى أنه نقل فورا إلى المستشفى بدلا من المعتقل، وتعرض للضرب حتى وهو في المستشفى! وثقت تفاصيل الاعتقال على لسان الخواجة نفسه بدقة في محاضر التحقيق. عين للتحقيق معه واحد من أشطر وكلاء النيابة وأذكاهم بحسب المحامي الجشي.
منع الجشي من الحديث مع الخواجة خلال جلسة التحقيق، ووضع كرسيه خلف كرسي الخواجة وبعيدا عنه بحيث لا يراه ولا يهمس له حتى. لم يعرف الجشي سر كل هذه الترتيبات الغريبة، لكن ذلك لن يعود غريبا إذا عرفت المسافة بين غرفة التحقيق وغرف التعذيب المظلمة التي تجاورها.
قبل التحقيق بثلاثة أيام فقط خفت وجبات التعذيب على الخواجة. تفاصيل ما كان يجب أن يراها إلا المحقق! كانت تلك تفاصيل وجه الخواجة التي غرقت فيها مخيلة الجشي رغم كل شيء.
أظهرت الأسئلة التي تطرح عليه بأنهم يعتبرونه المفكر والمحرض والمفجر لثورة 14 فبراير، وصاحب فكرتها كذلك، وكان هو يرد بأن كل أقواله التي استندوا إليها كانت "لاحقة لا سابقة على 14 فبراير"
استمر التحقيق يومين، كان في كل مرة يبدأ في حدود الثالثة ظهرا ولا ينتهى إلا بعد منتصف الليلة. يغادر الجشي التحقيق لترجعه السيارة ذاتها إلى الرفاع. كان ذلك في ذروة جنون "السلامة الوطنية"، نقاط التفتيش تملأ كل الشوارع، وبال الجشي لم يكن معه، لم يرجع إلى البيت.
اعتقال متأخر وأقوال لا تعترف بها المحكمة
حكم على جميع المتهمين في قضية 21 "مؤامرة قلب نظام الحكم" بناء على أقوالهم عدا الشيخ محمد حبيب المقداد وعبد الهادي الخواجة، فلم يؤخذ بأقوالهما! استبعدت المحكمة أقوال الخواجة، ولم تعول عليها في حكم الإدانة، لم ترتكن إلى أقواله نهائيا، لأنه لم يكن هناك شك بأنها كانت تحت التعذيب الشديد، علاوة على أنها ورغم كل التعذيب ليس فيها أي شيء يدينه!
بعثت النيابة جميع القيادات السياسية للطب الشرعي، عدا الخواجة والمقداد. في التحقيق طلب الجشي عرضه على الطبيب الشرعي، أجري الفحص عليه بعد 20 يوماً وثبتت كل آثار التعذيب، والأسباب التي نجمت عنها.
في نظر الجشي ولعدة اعتبارات وتحريات، فقد تأخر اعتقال الخواجة عن الآخرين ليجمعوا أكبر قدر من الأدلة المفترضة عليه خصوصا من أقوال المتهمين، وليخضع أمر اعتقاله إلى دراسة معمقة لخطورته.
يعتقد الجشي بأن إشارة خضراء قد تكون قد منحت للنظام من جهات دولية لاعتقال الخواجة، ويشير إلى أن من نفذ طريقة القبض عليه ومن أمر بها كانوا يتصرفون كمن لم يكن مصدقا هذا التفويض. يعتقد الجشي بأن ملف الخواجة رفع لأطراف دولية لإقناعها بضرورة السماح بالقبض عليه.
الحرب على الخصم من قلعته
انتهت السلامة الوطنية، لكن آلام الخواجة لم تنته. يعيش الجشي الآن فترة عصيبة جدا وهو يتابع إضراب الخواجة عن الطعام.
يتلقى الجشي عشرات الاتصالات يوميا من المنظمات الدولية والسفارات وكالات الأنباء حول العالم لمتابعة قضية الخواجة. ذاق مر عام كامل من أجل قضية الخواجة، كان ألم الخواجة هو ألمه بكل تفاصيل وجهه.
اضطر الجشي أن يرفض عشرات القضايا حتى يوفر الوقت الكافي للعمل في قضية الخواجة، رهن نفسه بالكامل للدفاع عن أستاذ المدافعين عن حقوق الإنسان ورمز صمودهم. يشارك الجشي وينظم حملات التضامن مع الخواجة، وينشط في هذا السياق على مستوى كبير في الصعيد الإعلامي.
بذل الجشي الكثير في إعداده لمذكرة الدفاع عن الخواجة، لكنه كان يعلم بالحكم مسبقا، وكان يعرف إلى أين يمم وجهه بعد الخروج من قاعة المحكمة "لم تكن محاكمة عادلة، والحكم الذي صدر ضده حكم سياسي متعسف كان يعاقب آراءه لا أفعاله" يرى الجشي أن الخواجة كان ضحية لمواقفه السابقة، وخصوصا مواقفه الصريحة والجريئة ضد الديوان الملكي ورئيس الوزراء.
في إحدى جلسات المحكمة أقام الجشي استجوابا مثيرا وملفتا للضباط الذين حضروا كشهود إثبات على القضية والذين كان بعضهم مسئولا عن عملية الاعتقال، سبّب هذا الاستجواب ضجة في قاعة المحكمة وموجة من الضحك حتى من القضاة أنفسهم.
بعد أسبوع اختلقت النيابة للجشي قضية مفبركة، ثم حفظت. نقلت تفاصيل هذه القصة للخواجة وهو في المعتقل من قبل وكلاء النيابة "قريبا سيكون محاميك سجينا كذلك"
استطاع الجشي أن يثبت للتاريخ بأن الخواجة نال أبشع صنوف النكال والتعذيب، انتقاما من مواقفه، وحول قضيته إلى حالة قياسية ومثالا صارخا على انتهاكات النظام لم يكن للمحقق بسيوني بد من استخدامها وتوظيفها في مخرجات تقريره.
"الخواجة أكبر دليل على فساد القضاء وجهازي الأمن الوطني والجيش" لا زال الجشي يزور الخواجة كل أسبوع، ولا زال الخواجة يحارب الخصم من قلعته، على نهج الداعية الكبير نيلسون مانديلا.
كان محمد الجشي طالبا في كلية الحقوق، واعتقل في قضية الاعتصام الذي جرى داخل مطار البحرين عام 2006 للمطالبة بالإفراج عن رجل الدين الشيعي الشيخ محمد سند. تولى عبد الهادي الخواجة حملة الدفاع عن معتقلي هذه القضية، وحكمت المحكمة ببراءة الجشي.
"عبد الهادي ربّاني وصنع مني محاميا" بنبرة هادئة متألمة، يتحدث محمد الجشي. منذ ذلك الوقت أصبح الجشي صديقا مقربا للخواجة، ومن ثم محامي مركز البحرين لحقوق الإنسان، وعضو مجلس إدارته، وكذلك عضوا في مختلف لجان الدفاع واللجان الأهلية التي أشرف عليها الخواجة.
ود كبير، يجمع بين الجشي وعبد الهادي وكذلك مركز البحرين لحقوق الإنسان "كان يدافع عن حقوق الإنسان بكل مهنية وشفافية، كان صريحا جريئا، وكان معلما" يتأسف الجشي لأنه لم يستطع أن ينضم بشكل رسمي للمركز قبل أن ينحل!
"علمني الخواجة أن أوظف الآليات الدولية في الدفاع أمام المحاكم المحلية، وصقلني من الناحية الحقوقية. أعطاني الثقة بأن أتولى أكبر القضايا الموجودة".
ارجع حالا
في العام 2008 غادر الخواجة للعمل في منظمة فرونت لاين الدولية. قال الخواجة لزملائه إن المركز وصل لمستوى عال من النضج والحرفية، وإنه على ثقة كبيرة بأن كوادره قادرة جدا أن تمضي في تحقيق أهداف المركز.
فبراير 2011، اتصل عدد من الشباب بعبد الهادي الخواجة، وقالوا له "كل التضحيات ستذهب هباء وستضيع القضية إن لم ترجع الآن، الكل يحتاجك هنا، ويجب أن تكون موجودا" لم تقبل المنظمة استقالته، لكنه لم يتحمل فقدم لهم إشعارا بأنه مغادر خلال أيام.
قضى الجشي مع الخواجة العديد من ساعات الحرية في دوار اللؤلؤة كل يوم، كان يعترض على رفع شعار إسقاط النظام، وكان الخواجة يزين له هذا الاختلاف بين الناس في سقف المطالب السياسية ويجد أنه يبث روحا أقوى في هذا الحراك التاريخي.
ينقل الجشي أن أكثر ما كان يشدد عليه الخواجة هو السلمية، وأن ذلك كان بالنسبة له المفتاح الوحيد للنصر وأي خيار آخر كفيل بإفشال الحركة في نظره.
"كان الخواجة يرى بأنه من الطبيعي أن يكون خيار الحوار مطروحا" أحد مبادئ الخواجة في العمل إيمانه بالحوار كوسيلة لتحقيق أهداف الحركة، لكنه كان يرفض حوارا دون مقدمات وظروف وضوابط ومعايير تضمن له أن يكون منتجا.
لا يقرّب عبد الهادي أي شخص له بسهولة، يقوم بذلك تدريجيا وبحذر. لكن الجشي دخل إلى قلب الخواجة بعمق وصار ثقته المطلقة، حتى أنه تحدى النيابة العسكرية ولم يتحدث في التحقيق بأي شيء حتى يحضر الجشي "محاميه الخاص" لا أي محام آخر.
لقد كان هو
"حتى حين دققت النظر لم أتأكد أنه هو، لم أستطع أن أصدق، لم أعرفه إلا حينما تحدث. رفع رأسه، وابتسم، كان سعيدا جدا، لم أتمالك نفسي، لم أستطع أن أحضنه، كنت سأبكي"
كان شعره متساقطا، آثار الكدمات خلقت له شكلا آخر تماما. بذل جهدا كبيرا ليستطيع أن يفتح فمه، تكلم بنبرة خافتة، لكن معنوياته كانت مرتفعة جدا "أنا تأثرت نفسيا مما رأيته فيه، ولكنه كان غير مبال، لقد كان الخواجة أستاذ الصمود"
لكن الجشي كان أيضا سعيدا، لأنه دخل إلى المكتب وكل ما يتمناه أن يرى الخواجة وهو على قيد الحياة، لم ترعبه الرحلة الطويلة التي قضاها وهو معصب العينين داخل سيارة عسكرية، ولم يلتفت إلى رهبة المكان المجهول الذي دخله وحيدا بين كل هذه القوات وعناصر المخابرات والأمن، كان شغله الشاغل هو عبد الهادي!
بصفته محاميا حقوقيا، مرت على الجشي عشرات الحالات من التعذيب والانتهاكات، لكن لأول مرة يرى حالة مثل هذه، بحيث أنه لم يستطع التعرف على المتهم. لقد كان ذلك أبشع منظر مر عليه في حياته كما يصف.
تفاصيل الألم
يؤكد الجشي بأن حالة الخواجة كانت من بين الحالات القياسية التي اختار البروفيسور بسيوني عرضها على أطباء شرعيين دوليين، للخروج بتقرير عن ادعاءات التعذيب في السجون البحرينية فترة السلامة الوطنية.
لم يكن يستطيع أن يمضغ الأكل من الكسور التي كانت في فكه، كان الماء ينسكب من فمه حين يشربه، كان يلين الطعام بالماء حتى يبلعه دون مضغ. في سياق درامي، وبعد عام من اعتقاله، لن يحتاج الخواجة إلى كل هذا الجهد حتى يصمد، وضعه والمرحلة التي تمر بها البلاد تسمح له بأن يكون الآن مضربا عن الطعام لأكثر من 45 يوما، ولذات الأهداف التي عذب من أجلها.
طلب الجشي الالتقاء بموكله بعد جلسة تحقيق دامت 10 ساعات. كان الخواجة يريد أن يطمئن على عائلته وخصوصا ابنته زينب، كان يخشى عليها جدا لكثرة ما هدد فيها، وكانوا قد أخبروه بأنها مضربة عن الطعام، ليضغطوا عليه أكثر. طلب الخواجة من الجشي أن يوصل لها طلبا خاصا منه لتفك الإضراب!
17 يوما قضاها الخواجة وحيدا في زنازن الموت، كانت وجبات التعذيب تخفف عن الجميع إلا هو "يتدرب الحقوقيون على تلقي التعذيب والضرب بمزيد من الصمود" استمر اللقاء بينهما 15 دقيقة، ودعه الجشي وداعا حارا، وخرج وهو يحمل هما كبيرا سيظل يعيش فيه عاما كاملا، ولا ينتهي!
تفاصيل وجه الخواجة الغائبة
كان ذلك بعد 21 يوما من اعتقال الخواجة الذي لم يكن له شبيه في وحشيته، حتى أنه نقل فورا إلى المستشفى بدلا من المعتقل، وتعرض للضرب حتى وهو في المستشفى! وثقت تفاصيل الاعتقال على لسان الخواجة نفسه بدقة في محاضر التحقيق. عين للتحقيق معه واحد من أشطر وكلاء النيابة وأذكاهم بحسب المحامي الجشي.
منع الجشي من الحديث مع الخواجة خلال جلسة التحقيق، ووضع كرسيه خلف كرسي الخواجة وبعيدا عنه بحيث لا يراه ولا يهمس له حتى. لم يعرف الجشي سر كل هذه الترتيبات الغريبة، لكن ذلك لن يعود غريبا إذا عرفت المسافة بين غرفة التحقيق وغرف التعذيب المظلمة التي تجاورها.
قبل التحقيق بثلاثة أيام فقط خفت وجبات التعذيب على الخواجة. تفاصيل ما كان يجب أن يراها إلا المحقق! كانت تلك تفاصيل وجه الخواجة التي غرقت فيها مخيلة الجشي رغم كل شيء.
أظهرت الأسئلة التي تطرح عليه بأنهم يعتبرونه المفكر والمحرض والمفجر لثورة 14 فبراير، وصاحب فكرتها كذلك، وكان هو يرد بأن كل أقواله التي استندوا إليها كانت "لاحقة لا سابقة على 14 فبراير"
استمر التحقيق يومين، كان في كل مرة يبدأ في حدود الثالثة ظهرا ولا ينتهى إلا بعد منتصف الليلة. يغادر الجشي التحقيق لترجعه السيارة ذاتها إلى الرفاع. كان ذلك في ذروة جنون "السلامة الوطنية"، نقاط التفتيش تملأ كل الشوارع، وبال الجشي لم يكن معه، لم يرجع إلى البيت.
اعتقال متأخر وأقوال لا تعترف بها المحكمة
حكم على جميع المتهمين في قضية 21 "مؤامرة قلب نظام الحكم" بناء على أقوالهم عدا الشيخ محمد حبيب المقداد وعبد الهادي الخواجة، فلم يؤخذ بأقوالهما! استبعدت المحكمة أقوال الخواجة، ولم تعول عليها في حكم الإدانة، لم ترتكن إلى أقواله نهائيا، لأنه لم يكن هناك شك بأنها كانت تحت التعذيب الشديد، علاوة على أنها ورغم كل التعذيب ليس فيها أي شيء يدينه!
بعثت النيابة جميع القيادات السياسية للطب الشرعي، عدا الخواجة والمقداد. في التحقيق طلب الجشي عرضه على الطبيب الشرعي، أجري الفحص عليه بعد 20 يوماً وثبتت كل آثار التعذيب، والأسباب التي نجمت عنها.
في نظر الجشي ولعدة اعتبارات وتحريات، فقد تأخر اعتقال الخواجة عن الآخرين ليجمعوا أكبر قدر من الأدلة المفترضة عليه خصوصا من أقوال المتهمين، وليخضع أمر اعتقاله إلى دراسة معمقة لخطورته.
يعتقد الجشي بأن إشارة خضراء قد تكون قد منحت للنظام من جهات دولية لاعتقال الخواجة، ويشير إلى أن من نفذ طريقة القبض عليه ومن أمر بها كانوا يتصرفون كمن لم يكن مصدقا هذا التفويض. يعتقد الجشي بأن ملف الخواجة رفع لأطراف دولية لإقناعها بضرورة السماح بالقبض عليه.
الحرب على الخصم من قلعته
انتهت السلامة الوطنية، لكن آلام الخواجة لم تنته. يعيش الجشي الآن فترة عصيبة جدا وهو يتابع إضراب الخواجة عن الطعام.
يتلقى الجشي عشرات الاتصالات يوميا من المنظمات الدولية والسفارات وكالات الأنباء حول العالم لمتابعة قضية الخواجة. ذاق مر عام كامل من أجل قضية الخواجة، كان ألم الخواجة هو ألمه بكل تفاصيل وجهه.
اضطر الجشي أن يرفض عشرات القضايا حتى يوفر الوقت الكافي للعمل في قضية الخواجة، رهن نفسه بالكامل للدفاع عن أستاذ المدافعين عن حقوق الإنسان ورمز صمودهم. يشارك الجشي وينظم حملات التضامن مع الخواجة، وينشط في هذا السياق على مستوى كبير في الصعيد الإعلامي.
بذل الجشي الكثير في إعداده لمذكرة الدفاع عن الخواجة، لكنه كان يعلم بالحكم مسبقا، وكان يعرف إلى أين يمم وجهه بعد الخروج من قاعة المحكمة "لم تكن محاكمة عادلة، والحكم الذي صدر ضده حكم سياسي متعسف كان يعاقب آراءه لا أفعاله" يرى الجشي أن الخواجة كان ضحية لمواقفه السابقة، وخصوصا مواقفه الصريحة والجريئة ضد الديوان الملكي ورئيس الوزراء.
في إحدى جلسات المحكمة أقام الجشي استجوابا مثيرا وملفتا للضباط الذين حضروا كشهود إثبات على القضية والذين كان بعضهم مسئولا عن عملية الاعتقال، سبّب هذا الاستجواب ضجة في قاعة المحكمة وموجة من الضحك حتى من القضاة أنفسهم.
بعد أسبوع اختلقت النيابة للجشي قضية مفبركة، ثم حفظت. نقلت تفاصيل هذه القصة للخواجة وهو في المعتقل من قبل وكلاء النيابة "قريبا سيكون محاميك سجينا كذلك"
استطاع الجشي أن يثبت للتاريخ بأن الخواجة نال أبشع صنوف النكال والتعذيب، انتقاما من مواقفه، وحول قضيته إلى حالة قياسية ومثالا صارخا على انتهاكات النظام لم يكن للمحقق بسيوني بد من استخدامها وتوظيفها في مخرجات تقريره.
"الخواجة أكبر دليل على فساد القضاء وجهازي الأمن الوطني والجيش" لا زال الجشي يزور الخواجة كل أسبوع، ولا زال الخواجة يحارب الخصم من قلعته، على نهج الداعية الكبير نيلسون مانديلا.
اقرأ أيضا
- 2012-04-08At the Border of Zolmestan, By AbdulHadi AlKhawaja
- 2012-04-07قصة السجين رقم 8: شهادة "بسيوني" على آلام "الخواجه"!
- 2012-04-06"على حدود مملكة ظلمستان" - بقلم عبدالهادي الخواجة
- 2012-04-01الخواجة في غرفة التحقيق: كل شيء خارج حقوق الإنسان قابل للإسقاط 3
- 2012-03-22الخواجة في علياء الألم: لا أشعر بأي ندم(1-4)