التعليق السياسي: رضا الغسرة.. صوّب أيها الجبان
2017-02-13 - 3:52 م
مرآة البحرين (خاص): عندما تقرَّر إعدامه، قال لمن بُعث لتنفيذ الحكم: "أعلم أنك هنا لتقتلني، صوب أيها الجبان، فكل ما ستفعله هو أن تقتل رجلاً"، إنه تشي جيفارا..
هل سمعتم عن بطل ثوري لم يتهمه النظام المستبد الذي يواجهه بأنه خائن أو إرهابي أو مخرب أو محرّض أو مجرم؟ وهل تقوم الأنظمة المستبدة إلا بتصفية هؤلاء الثوار الذين تضيق بهم درعاً، بعد أن يهدّدوا نفوذ سلطتها، ويفلتوا من قبضة سيطرتها وإحكامها، وينالوا من هيبتها، ويخدشوا صورتها الحديدية؟
لقد أُعدم المناضل الثوري جيفارا رمياً بالرصاص، ليصير فيما بعد أيقونة الثورة لكل شعوب العالم، وأصبحت صورته منذ وفاته رمزا في كل مكان وشارة عالمية ضمن الثقافة الشعبية. وأُعدم الثائر الليبي عمر المختار وهو يردد شعاره الثوري "نموت أو ننتصر" ليصير فيما بعد أسطورة نضال. وأعدم الثائر الفلبيني خوسيه ريزال في ساحة عامة، قبل أن تتحول تلك الساحة إلى معلم سياحي يضمّ قبره، تروي حكاية إعدامه كبطل وطني، ويحُتفل بيوم وفاته كعيد وطني.. ودون هؤلاء الثوار حكايات أخرى.
البحريني رضا الغسرة، قيل عنه أنه شاب تتحرّك الثورة تحت قدميه، أو جيفارا البحرين كما يحب البحرينيون تسميته. في يومه الأخير، ذهب رضا إلى البحر، وهو يعلم أنه أمام خيارين، إما الحرية أو الشهادة. لم يكن خيار العودة إلى القفص الحديدي وارد لديه، بل كان يتمثّل مقولة جيفارا: "إما أن نحقق الحرّية وإما أن نبقى معذَبين"، فإذا لم يحقّق رضا حريته في تلك اللحظة، لن يقبل أن يبقى مُعذّباً في سجونهم أكثر..
السلطة أيضاً، لم يكن إعادة رضا إلى السجن خيار وارد لديها، بل لم يكن لديها غير قرار تصفيته، فقد بلغت منه مداها، خاصة بعد أن جعلها أضحوكة الناس ومحل سخريتها، بعد هروبه الرابع والأخير من سجن (جو).
على صفحة البحر، وجّد رضا نفسه مقابل قوات الكوماندوز التي حاوطته بأعداد هائلة، توحي أعدادها بأنها تهاجم كتيبة حرب كاملة لا شخص واحد يحمل سلاح. وجّه رضا رشّاشه لها وهو يعرف أن نهايته ستكون عند هذا الحد تماماً، فقوارب خفر السواحل حاصرت قاربهم الصغير من كل صوب، يعلم رضا أن لا منجاة له من الموت، وأن رشاشه لم يكن سيحميه منهم، بل سيكون حجتهم في تصفيته، لكنّه اختار أن يموت صامداً مقاوماً حتى الرمق الأخير، فـ "القوة الحقيقية هي أن تكون في قمة صمودك عندما يعتقد الكثيرون أنك سقطت".
ليس رضا زعيماً سياسياً، ولا يمثّل فصيل سياسي، إنه شاب ثوري فحسب. شابٌ تجري الثورة في عروق دمه النابض، لا يتوقّف عن الثورة ولا تكتفي من جسارته وشجاعته وجرأته. لدى رضا القدرة على عدوى الآخرين الذين يخالطونه روحه المتأججة والوثّابة تلك، لهذا اعتبرته السلطات الأخطر عليها.
لقد ضاق رضا بهذا النظام المستبد المتعجرف المستحوذ على السلطة والثورة ورقاب الناس، لم يعد يحتمل الحياة في ذلّه وهوانه، لم يخفت بريق الثورة في عيونه يوماً واحداً منذ طراوة فتوته، كلما زاد النظام السياسي في استكباره صارت الثورة لازمة رضا. لم تبدأ ثورته في 2011، بل كانت تلك محطتها الأخيرة التي امتدت حتى يوم مقتله. ربما تغيّرت خياراته في مقاومة النظام المستبد ومواجهته، لكن بقت الثورة جذوته المشتعلة التي تزداد توهّجاً، كلما زاد النظام رعونة واستكباراً وقمعاً وتعذيباً وترهيباً.
قد يكون رضا اختار طريقاً لا يتفق معه فيه آخرون، لكنه وجده خياره الأخير بعد أن استُنفدت كل وسائل الشعب السلمية مقابل استنفاد النظام لكل وسائل عنفه وجبروته. في دوار اللؤلؤة لم يكن خيار رضا مختلف عن باقي المعتصمين هناك، كانت الثورة الحالمة بالتغيير طموحه كما باقي المعتصمين الذين حملوا الورد شعاراً لهم، لكنه لم يعد كذلك بعد أن أمعن النظام في عنفه الغوغائي ووحشيته البربرية تجاه كل من سوّلت له نفسه بالحلم. قرّر رضا أن العنف يجب أن يقابل بالعنف، وأن الاستسلام أمام كل هذه الوحشية خنوع يُفقد الإنسان كرامته وشعوره بإنسانيته، ويجعل الجائر يتمادى أكثر: "إذا فرضت على الإنسان ظروف غير إنسانية ولم يتمرّد سيفقد إنسانيته شيئاً فشيء".
قرّر رضا أن يواجه عنف النظام الباطش وأن لا ينهزم أمام عدّته وعتاده، أن يواجه قوات مرتزقته التي يجلبهم من جنسيات مختلفة لقمع هذا الشعب وقتله، فكانت تهمة الإرهاب في انتظاره، التهمة التي لا يفتأ النظام البحريني يتخذها ذريعته لتصفية معارضيه، إما تصفيتهم جسدياً أو بأحكام تصل إلى أكثر من 100 عام كما فعلت مع رضا. لم يرفع رضا سلاحه في وجه أحد من المواطنين، ولم يحرق مرفقاً عاماً، ولم يروّع مواطناً واحداً، بل لم يقتل شرطياً واحداً، ولم يرد شيء من ذلك في التهم التي ألصقتها به الداخلية تحمل عنوان الإرهاب. كان الأقصى مواجهاته العنيفة مع مرتزقة الأمن القامعة في الشوارع العامة، وهو شغب يحدث في أي مكان يشهد احتجاجات غاضبة في العالم.
لقد ضاق النظام البحريني ذرعاً برضا، ضاق ذرعاً بجرأته وجسارته الاستثنائيتين، صار رضا ورطته الكبرى الذي لا يعرف كيف يتعامل معها، فلا التعذيب نجح في كسر شوكته، ولا أحكام السجن التي وصلت 104عامًا تمكنت من كبح جموحه الثوري وجنوحه المتمرد، ولا القيود الحديدية التي صكّت يديه ورجليه تمكنت من منع هروباته المتعددة، لقد كسر رضا هيبة الجهاز الأمني بأكمله عندما حطّم رقماً قياسياً في عدد مرات الهروب من السجن الحديدي (جو)، لقد نجح شخص واحد في أن يوقف سجن كامل على قدمه أمام أكبر هروب شهدته السجون البحرينية.
لم يعد ممكناً للداخلية أن تُعيد رضا الغسرة إلى سجونها المهزومة حيّاً، ولم يعد ممكناً لرضا أن يقبل العودة من هروبه الأخير إلا شهيداً. لهذا وقف رضا في لحظته الأخيرة أمام قوات الكوماندوز المدججة بالسلاح، وهو يقول لهم واحداً واحداً: "أعلم أنك هنا لتقتلني، صوب أيها الجبان، فكل ما ستفعله هو أن تقتل ثائراً بحرانياً استثنائياً".. لقد صرت أيقونة الثائر البحريني يا رضا..