نزيهة سعيد بميكرفونها وابتسامة المحاربة: مازالت تلاحق جلاديها

2012-05-03 - 7:58 ص


مرآة البحرين (خاص): لا‪ ‬زالت تكبتُ ذلك الألم في داخلها وتستُره بابتسامة محارب في الميدان، لا زالت نزيهة‪ ‬تحمل ميكرفونها وترفعه في وجه الجميع، من يحبونها، ومن يكرهونها، من يتفقون معها،‪ ‬ومن يختلفون. أعداؤها، وأصدقاؤها، كلهم ضيوف لديها برحابة صدر، تتسع لميدان مليء‪ ‬بالمعارك، يبتسم فيها من يبتسم آخرًا‪.‬

المعركة‪ ‬القضائية التي بدأت في الثاني من يناير (كانون الثاني) من هذا العام (2012) لا تزال‪ ‬ترزح ملفاتُها في النيابة العامّة، بعد أن حوّلتها خطأً إلى المحكمة الجنائية الكبرى‪ ‬دون التحقيق فيها، وذلك بعد أن وجّهت الإدارة العامة لديوان وزارة الداخلية تُهمة‪ ‬جُنحة الاعتداء على سلامة جسم الغير، والسب، ومخالفة الإتيان بأعمال تتنافى مع الكرامة‪ ‬العسكرية، ومخالفة عدم معاملة المواطنين معاملة حسنة، للملازم سارة محمد الموسى، التي‪ ‬قامت بتعذيب الصحافية نزيهة سعيد في الثاني والعشرين من مايو (أيار) 2011، وحُوّلت‪ ‬للمحكمة العسكرية، وعلى إثرها تم تغريمُها 400 دينار، وتم إيقاف علاوتها السنوية لمدة‪ ‬عام‪.‬

هكذا‪ ‬يتعامل القضاء في البحرين العسكري والمدني مع شكاوى التعذيب، فقضية الصحافية نزيهة‪ ‬سعيد، هي القضية الأولى التي تُنظر أمام المحكمة من بين القضايا التي رُفعت فيها شكوى‪ ‬في التعرّض للتعذيب، الذي تمتهنه قوات الأمن، والمخابرات، والجيش البحريني منذ سنوات،‪ ‬ومارسته بأبشع أشكاله منذ مارس (آذار) 2011‪‬

نزيهة‪ ‬التي بدأت مشوارها الصحافي في صحيفة الأيام، ثم التحقت بالراديو العريق الذي خرَّج‪ ‬عشراتٍ من الإعلاميين المتميزين العرب "راديو مونتي كارلو" - وتحوّل اسمُه في الوقت‪ ‬الحاضر إلى "مونتي كارلو الدولية"- لتكون جديرةً باختيارها مُراسلة لتلفزيون فرنسا 24‪ ‬ بعد أن تمَّ تدشين نسخته العربية منذ حوالي الثلاث سنوات‪.‬

خلال‪ ‬تغطيتِها للاحتجاجات في البحرين، التي انطلقت في فبراير (شباط) من العام 2011، شهدت‪ ‬بعينيها مقتل الشهيد عيسى عبد الحسن، الذي وجّه الشرطي سلاحَه إلى رأسِه، وفجّره أمامَها‪ ‬بقلبٍ بارد، وعاد إلى صُفوف الشرطة التي كانت متمركزةً عند مدخل دوار اللؤلؤة، الذي ادّعت‪ ‬وزارة الداخلية أنها طهّرته في السابع عشر من فبراير من العام ذاته‪.‬

لم‪ ‬تمُر هذه الشهادة التي تحدثت عنها نزيهة إلى وسائل الإعلام مرور الكرام على عقليات‪ ‬منتسبي وزارة الداخلية المليئة بالانتقام والحقد والكراهية، فما أن بدأت حملة‪ ‬الاعتقالات والتعذيب والقتل في الخامس عشر من مارس من العام ذاته، حتى أصبح‪ ‬الصحفيون جميعًا وليس نزيهة فقط تحت الحصار وفي انتظار الموعد المُقبل‪ ‬للاعتقال‪.‬

سبقها‪ ‬زملاؤها علي جواد، فيصل هيات، منى النشابة، ندى الوادي، وعبد الله علاوي، وآخرون،‪ ‬وكانت هي وزميلُها مازن مهدي، والصحفي حسين الدرازي، على موعد مع الانتقام في الثاني‪ ‬والعشرين من مايو من العام ذاته‪.‬

‬تسلّم الثلاثة مكالماتٍ هاتفية تدعوهم للحضور إلى مركز شرطة الرفاع في المحافظة‪ ‬الجنوبية للتحقيق، ورغم أنَّها كانت تتوقع هذا الاتصال، إلا أن التوقعات اقتصرت على‪ ‬الاستجواب وطرح التساؤلات، خصوصًا وأنّها لم تشارك في مسيرة الصحافيين التي راح‪ ‬ضحيتها غالبية الذين شاركوا فيها‪.‬

توجهت‪ ‬إلى المركز المشؤوم بعد أن أخبرت زميلين قريبين لها، والمسؤولين في القنوات التي‪ ‬تراسُلها. أعلمتهم أنَّها مُتوجهةٌ لمركز الشرطة، وتعتقد أنَّ التحقيق له علاقة بعملِها‪ ‬كصحافية. لم تخب ظنونُها، أو خابت، فكانت التُهم الموجهة لها متنوعة، بين الارتباط‪ ‬بالجمهورية الإسلامية الإيرانية وبقنواتها الفضائية، بالإضافة لقناة المنار‪ ‬اللبنانية، وكونها جزءاً من تنظيم إرهابي معني بالإطاحة بالحُكم، وهي تنتمي للشبكة‪ ‬الإعلامية فيه، بالإضافة لمشاركتها في التظاهرات ومطالبتها بإسقاط النظام والتطاول‪ ‬على العائلة الحاكمة‪.‬

فنّدت‪ ‬نزيهة كل تلك الإدعاءت، وهي تسمع أصوات ضرب فتيات في الغرفة المجاورة، كنّ ممرضات‪ ‬أوتي بهن من مجمع السلمانية الطبي، كي يُعاقبن على أدائهن عملهن في مداواة جرحى‪ ‬الاحتجاجات. وأكّدت أنَّها تعمل لصالح قنواتٍ فرنسية، ولأنَّها نقلت الوقائع من خلال‪ ‬مشاهداتها المباشرة على أرض الواقع، إلا أن كل تلك الاتهامات لم تكن السبب الرئيسي وراء‪ ‬استدعائها لمركز الشرطة‪.‬

فما‪ ‬أن بدأت حفلة الزار – كما تُسميها نزيهة – التي تلقّت خلالَها الضرب على كافة أنحاء‪ ‬جسدها، وبطرق مُهينة، وحاطّة بالكرامة الإنسانية، حتى راحت الصرخات تتعالى:‪ ‬

‪• "‬كيف‪ ‬تقولين أنَّ هناك من قُتل من قِبَل رجال الشرطة؟‪" ‬
‪• "‬لقد‪ ‬رأيتهم بعيني" – "لم يَقتُل رجالُ الشرطة أحدًا بالرصاص‪" ‬
وهي‪ ‬ترزح تحت "الهوز" الذي كان يلعب على ظهرها ورأسها وقدميها‪ ‬
‪• "‬كنتُ‪ ‬هناك في مكان الحادثة في السابع عشر من فبراير وشهدتُ، مقتل عيسى عبد الحسن، وفي‪ ‬الثامن عشر من فبراير، وشهدتُ مقتل عبدالرضا بوحميد‪" ‬
‪• "‬وإن‪ ‬يكُن، وهل كل ما ترينه تقولينه؟‪"‬
‪• "‬هذا‪ ‬عملي، أنا مراسلة وهذا ما أقوم به‪" ‬
‪• "‬وهل‪ ‬عملُك أن تُشوّهي سمعة البحرين؟"
قالت‪ ‬في داخلها: "أنا من يشوّه سمعة البحرين، أم أولئك الذين رفعوا أسلحتهم في وجه بني‪ ‬جلدتهم، الذين رفعوا صوتهم من أجل الحرية"، صمتت وتوالى الضرب‪.‬

لم‪ ‬تكن سارة الموسى هي الوحيدة التي تُعذِب، بل شاركَ في "حفلة الزار" الكثير من الشرطيات ‪الموجودات في المركز ذاته وفي الوقت ذاته، إحداهن وضعت حذاء نزيهة في فمها، وأخرى‪ ‬طلبت منها أن تمشي كالحمار، وجلست فوق ظهرها فسقطت، فهي ذاتُ جسدٍ نحيل، والشرطية كبيرة‪ ‬وضخمة. أما الشتم والاستهزاء فلم يقصر فيه لا شرطة الذكور ولا الإناث، لا‪ ‬أولئك الذين يرتدون لباسَهم الرسمي العسكري، ولا الذين يرتدون ملابس مدنية‪.‬

لم‪ ‬تستوعب نزيهة كلَّ ما حدث في هذه الساعات الطويلة التي مرت وكأنّها أشهر. كانت لا‪ ‬تتصوّر صُنوف التعذيب التي تُمارَس من قبل السلطة في البحرين، رغم أنَّها كبُرت في أجواءٍ‪ ‬طال الحديث فيها عن الشهداء والمُعذَّبين‪.‬

سارة‪ ‬الموسى التي كانت تتفنّن في تعذيب الموقوفات في المركز، نزيهة ومن كان معها، قرّبت‪ ‬المعذبة قنينة بها سائل من فم نزيهة وصرخت فيها بأن تشربه، وفي الوقت ذاتِه جاء صوت من شرطيةٍ‪ ‬أخرى يقول إنَّ هذا بول، ونزيهة المعصوبة العينيين منذ لحظات التعذيب الأول وحتى‪ ‬الساعت الـ13 التالية لم تكن تعلم ما بالقارورة فدفعتها بيدها. غضبت سارة، فسكبت ما‪ ‬بها على وجه نزيهة وملابسها، وسحبتها من شعرها في الأرض إلى دورة المياه، لتضع وجهها‪ ‬في المرحاض وتأمرها أن تشرب منه‪.‬

كالكابوس‪ ‬مرّت تلك الساعات في مركز الرفاع، قبل أن يطلبها رئيس المركز ويسمح لها بالذهاب إلى‪ ‬منزلها، لم تكن تعلم لحظتها ما هي حيثيات هذا العفو المفاجئ، بعد كل هذا التنكيل‪ ‬والضرب والإهانات، ولكن وفي صباح اليوم التالي تكشَّف المستور‪.‬

الفجر‪ ‬جرَّ معه مجموعةً من المكالمات من السفارة الفرنسية في البحرين، ومن مسؤوليها في‪ ‬القناة في باريس، تلاها جميعُها اتصال رئيس الإعلام الأمني بوزارة الداخلية يستوضح‪ ‬ما حدث، ويطلب منها الحضور لفتح تحقيق فيما تعرّضت له في مركز الشرطة. رغم خوفها،‪ ‬وعدم قدرتها الجسدية على الحركة بسهولة، أصر المُقدَّم محمد بن دينة على الذهاب إلى‪ ‬القلعة (وزارة الداخلية) لتسجيل محضر في الواقعة التي "أمر وزيرُ الداخلية بالتحقيق‪ ‬فَّيها" حسب بن دينة، وعند وصولها هناك، تم أخذ أقوالها وتعرّضت للفحص الطبي في عيادة‪ ‬القلعة‪.‬

في‪ ‬اليوم الثاني، تم استدعاؤها من قبل الضابط نفسه إلى النيابة العسكرية، في المكان ذاته‪ ‬للإدلاء بأقوالها مجدّدًا، واستمرَّ التحقيق 5 ساعات، قالت فيه نزيهة كلَّ ما تتذكره من‪ ‬مساء البارحة من أحداث، وعُرِضت عليها المتهمات وتعرَّفت إليهن، وقالت إنَّ هناك المزيد‪ ‬ممن ضربنها، فوعدوها بأنه سيتم استدعاؤها في وقتٍ لاحق للتعرف عليهن، ولكن ذلك لم‪ ‬يحدث حتى اليوم‪.‬

سافرت‪ ‬لفرنسا في الليلة ذاتِها لتلقي العلاج، وبقيت هناك ردحًا من الزمن، خلال وجودها هناك،‪ ‬أصدرت وزارة الداخلية البحرينية تصريحًا بفتحها تحقيقًا في تعرُّض مراسلة إحدى القنوات‪ ‬الأجنبية لسوء معاملة في إحدى مراكز الشرطة، تلاه تصريحٌ صحفي من جمعية الصحفيين‪ ‬البحرينية تُشيد فيه بفتح وزارة الداخلية للتحقيق‪.‬

خلال‪ ‬وجودها في باريس، طلب مقابلتها السفير البحريني، ورئيس جمعية الصحفيين، ذهبت‪ ‬لمقابلتهم في جلسة غير رسمية، تساءلا خلال اللقائين عن تفاصيل الحادثة وما وقع، بشكلٍ‪ ‬خجول، دون تعليق على وحشية التعذيب الذي تعرّضت له‪.‬

عادت‪ ‬نزيهة إلى البحرين، ولم تعرف شيئًا عن التحقيق الذي فُتح في الرابع والعشرين من مايو‪ 2011‬، فقرّرت رفع قضية في ديسمبر (كانون الأول) الماضي، وتمَّ تحديد الثاني والعشرين‪ ‬من فبراير جلسةً أولى، والرابع من مارس جلسةً ثانية، خلالها قرّر القاضي أنَّ مجريات‪ ‬القضية هي عبارة عن جناية وليست جُنحة، وبهذا يُعيدها إلى النيابة العامة. النيابةُ‪ ‬العامة قرّرت تحويلها للمحكمة الجنائية الكبرى في 28 مارس، فأجلّها القاضي للحُكم في‪ 18 ‬أبريل، إلا أنَّه عاد وغير رأيه طالبا إعادتَها للنيابة العامة للتحقيق‪.‬

القضية‪ ‬التي أخذت صدىً عالميًا وتفاعل معها الاتحاد الدولي للصحفيين، و منظمة مراسلون بلا حدود،‪ ‬و‪IFEX  ‬، وغيرها، لم تلقَ من جمعية الصحفيين البحرينية إلا البيان الذي شكرت فيه وزارة‪ ‬الداخلية على فتحها التحقيق، كما أنَّها تجاهلت جلسات المحكمة التي تُحاكَم فيها مُعذِّبة‪ ‬نزيهة سارة الموسى، التي حوّلتها النيابة للمحاكمة بعد أن تم تجاهُل بقية المُتهمات في‪ ‬القضية، والأهم من ذلك من أعطى هؤلاء الأمر بالتعذيب‪. ‬


التعليقات
التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

comments powered by Disqus