د. قاسم عمران: عقدان مريضان... عن ما آلت له الخدمات الصحيّة

شكل اعتقال الكوادر الصحية بعد فبراير 2011 منعطفا غير مسبوق (أرشيفية)
شكل اعتقال الكوادر الصحية بعد فبراير 2011 منعطفا غير مسبوق (أرشيفية)

2019-03-06 - 10:53 م

 د. قاسم عمران*

شكل العقدان الأخيران مسارا منحدرا في تاريخ الصحة العامة في البحرين منذ تأسيس الخدمات الصحية في الدولة. فقد تدهورت الخدمات الصحية المقدمة للمواطنين لاعتبارات عدة منها عدم المواكبة الإدارية للتطورات الصحية على مستوى السياسات، وتعطل المشاريع الصحية المطلوبة أو تعثر إنجازها. ضف إلى ذلك ما هو متعلق بالزيادة السكانية غير المتوقعة بسبب سياسات التجنيس الجائرة التي ضاعفت من الطلب على الخدمات الصحية في وقت عجزت فيه الميزانية المخصصة للقطاع الصحي العام عن الوفاء بالاحتياجات الصحية.

ويمكننا الوقوف على أهم العلامات الفارقة في تاريخ الصحة العامة خلال هذين العقدين:

1. اعتقالات الكوادر الصحية فيما بعد فبراير/ شباط 2011 والذي شكل منعطفا غير مسبوق ليس على المستوى المحلي فقط بل على المستوى الدولي وكان موضع استهجان من المنظمات الدولية قبل أن يشكل وصمة عار في جبين تاريخ الصحة في البحرين. لقد تم استهداف الكوادر الطبية من أطباء وممرضين ومسعفين ليس فقط عبر الأساليب القمعية التي انتهجتها الجهات الأمنية؛ إنما أيضاً عبر التأجيج والتحريض المَرَضي من المنابر الإعلامية الرسمية للدولة. لقد تكامل هذا الاستهداف مع تغول بغيض للحالة الأمنية في الممارسة الصحية والتي تعددت أشكالها وارتداداتها. مهما حاول النظام تبرير إجراءاته القمعية ضد الكوادر الصحية، فإنه لن يجد جهة وطنية أو مهنية تقتنع بإجراءاته غير أولئك الذين التقت مصالحهم ومكاسبهم الوظيفية مع أهدافه السقيمة في إخضاع القطاعات المهنية ومنها الطبية وجعلها تحت سقف سيطرته؛ حتى لو تعارض ذلك مع القِيم المهنية والمبادئ الحاكمة لهذه المهنة الإنسانية، بين رسالتها في مداواة جراح المصابين وبين مهمّته في قتلهم وإيذائهم. وربما فسّر ذلك حل جمعية "الأطباء البحرينية" إداريا وتعيين مجلس إدارة من قبل الوزارة مختطّة بذلك سوابق غريبة تحرف هذا القطاع عن أخلاقيات المهنة واستقلاليتها وحيادها وتدخلها في مسارات التبعية.

2. تفشي حالة من اليأس وتدني المعنويات وتردي بيئة العمل للموظفين والعاملين في القطاع الصحي العام ممثلة في وزارة الصحة. وقد تترجم ذلك تزايد في حالات التقاعد المبكر للأطباء منذ مارس/ آذار 2011  وما بعده لتحل وزارة الصحة في المرتبة الثانية في عدد المتقدمين للتقاعد الاختياري.

3. خلال العقدين المنصرمين برز على رأس القطاع الصحي عدد من الرموز الرسمية على رأس الوزارة ممن تركوا بصمات سلبية ومتطفلة على المسار الصحي وتطوره، فمما يؤسف له أن هذا المسار حفل بعدد من الوزراء والوكلاء ممن لا مهنية لهم غير إنفاذ سياسات دخيلة على الممارسة الصحية وتاريخها. استثاء وزيرة [الصحّة السابقة]  د. ندى حفاظ التي تألقت في السنوات الأولى للألفية الثالثة، صعد إلى منصة الوزارة وزراء ووكلاء اتسمت إداراتهم بالفساد المغطى وسوء الإدارة وضعف القرار وانتظار التوجيهات. وقد توج هذا التدهور والانحدار في تعيين فاطمة البلوشي وزيرة للصحة لتمارس أدوار القهر والتمييز والإقصاء واستكمال مخطط الهندسة الطائفية للوزارة الذي بدأه وكيلها سابقا.

4. تعدد الخروقات للأخلاق في الممارسة الطبية وما يسمى مهنيا بـ"الحياد الطبي" عبر التدخل السافر في تقارير شهادات الوفاة للجرحى والمصابين في الأحداث الأمنية وتحريف أسباب الوفاة الحقيقية. وبالتالي لا يسع المراقب إلا أن يلمح هذا المَسّ الفج بصفة "الحياد الطبي" للطواقم الطبية الإسعافية والإخلال بوظيفتها ومهنيتها المستقلة والمحايدة في اسعاف ومداواة وبلسمة جراح المصابين بغض النظر عن خلفية إصاباتهم وجراحهم. حدث ذلك خلال أحداث فبراير/ شباط 2011 وتعزز وتكرس في السنوات اللاحقة حيث تم تغيير قواعد الاستجابة لنداءات الاستغاثة الاسعافية وتحويل تبعيتها من وزارة الصحة إلى وزارة الداخلية لتكون جزءًا مكملا ومتناغما مع إجراءات الأجهزة الأمنية وتخضع في استجابتها حصرا إلى قواعد التصنيف الأمني للمرضى والمصابين وليس إلى قواعد الحياد الطبي ومبادئه الحاكمة للممارسة الطبية والإسعافية.

5. على المستوى الإداري، شهدنا إعادة تنظيم القطاع الصحي إداريا عبر تشكيل المجلس الأعلى للصحة وسلطته التنفيذية بما يوحي بتوسع هيمنة أفراد العائلة الحاكمة على مختلف القطاعات في الدولة. إحدى أهم التحولات الاستراتيجية المناطة بهذا المجلس هو عملية التحول لنظام التأمين الصحي والذي هو حتى الآن مقلق وغير مأمون العواقب. يرى النظام أن بقاء الدولة كراع للخدمات الصحية يمثل عبئا اقتصاديا، يريد توجيه حصتها من الميزانية لغايات أخرى وللاستفادة منها في نظام المكرمات مقابل الولاء. وتبعا لذلك تم التسويق لفكرة أن المواطن سينعم منذ الآن ببطاقة التأمين الصحي والتي ستجعله حرا في اختيار الطبيب والمؤسسة الطبية للحصول على الرعاية الصحية التي يتطلبها وباختياره. رغم خطورة هذه القفزة، لا توجد شفافية حتى الآن في عملية التحول ولم يقدم مشروع وطني شامل يطرح عملية التحول ويتداول في دوافعها ومستقبلها وكيفية تمويلها وكيفية الحفاظ على المكتسبات الصحية، أو احتمالات فشلها وضمانات استمرارها. كل ما يعرفه الشعب عن مشروع التحول أتى على صفحات إعلام النظام على لسان رئيس المجلس الأعلى للصحة [الفريق طبيب الشيخ محمد بن عبد الله آل خليفة] الذي هو عنوان حديث لهيمنة العائلة الحاكمة على القطاع الصحي، والذي بدى كمجال حيوي مستجد للتجارة يتم تقاسم المكتسبات فيه بين الرؤوس النافذة في الدولة.

 

ـــ عائلة واحدة: القائد العام لقوة دفاع البحرين خليفة بن أحمد آل خليفة في لقاء مع ابن عمه محمد بن عبدالله آل خليفة رئيس المجلس الأعلى للصحة

مع مضي الأيام سيكتشف المواطنون أن الوعود التي أطلقها رئيس المجلس الأعلى للصحة ليست إلا أوهام ستتبخر مع تقلص مستمر في ملاءة التغطية والرصيد المالي لبطاقة التأمين الصحي المفترضة، ومع تملص المسئولين حينها من مسئولية هذا القرار الخطير. إن التنظيم الصحي وإعادة صياغة السياسات الصحية ليس خطأ بحد ذاته ولكن المشكلة تكمن في النوايا المُبيّتة وراء التحولات العملياتية وفي اتخاذها وسيلة لزيادة فعالية التمييز والاستخدام السلبي ضمن خريطة تصنيفات النظام للمواطنين. هذه الانعطافة ستحوّل وبشكل تدريجي الرعاية الصحية من "حق" إلى "إمتياز" يحظى به البعض دون الآخر.

6. عسكرة المؤسسات الصحية وتحويل معقل خدمي تنفيذي في الدولة إلى معقل أمني. وعلى الرغم من تحقق عناصر الولاء والإتباع للمعينين في الوزارة خلال الأعوام الأخيرة، إلا أن هذا لم يعد كافيا ولا يلاقي طموح العهد الجديد بعسكرة وزارات الدولة عبر خريجي ومتقاعدي المؤسسة العسكرية. كل ذلك من أجل إحكام القبضة وضمان التنفيذ للقرارات العليا دون تردد أو مساءلة. وكانت الفرصة المنتظرة سانحة بعد أحداث فبراير/ شباط 2011؛ حيث تم تعيين إدارة عسكرية في قلب مجمع السلمانية وعبرها يتم التحكم.

7. في مجال التدريب، شهد العقدان المزيد من التراجع. بعد إقرار البرنامج التدريبي المحلي للأطباء في مختلف التخصصات الثانوية والرعاية الأولية والذي تم إقراره في فترة وزير [الصحّة السابق] د. علي فخرو، وعوضا عن تطويره، بدأ هذا البرنامج بالتآكل وتم إيكال مهمة التدريب الطبي للأطباء والممرضين والفنيين إلى برامج تدريبية (بمنح من برنامج تمكين) من خارج الدولة وإلى دول كان خرّيجوها يتدربون في البحرين!

8. تنصل الوزارة من واجبها كجهة توظيف أساسية للأطباء والممرضين الجدد خريجي الكليات الطبية والتمريضية من داخل وخارج البحرين واعتمادها أسساً جديدة للتوظيف لا يمكن فهمها إلا بتعمد الإقصاء لفئة من أبناء الوطن المتطلعين لتقديم خدماتهم في هذا القطاع الهام.

إجراءات الإقصاء تسترعي الانتباه حيث أن أمدها لا يتوقف على تعطيل دفعة أو دفعتين من هؤلاء الخريجين بل تتعداها لإحداث تغيير في ذهنية هذه الفئة بأن تتخلى عن التفكير في دخول هذا المجال الخدمي الهام. فرغم حاجة الخدمات الصحية الملحة إلى الخريجين الجدد من أطباء أو ممرضين مدربين لتغطية التآكل المستمر على مستوى الكوادر الصحية بسبب التقاعد، أو لتلبية تزايد الطلب على الخدمات الصحية نتيجة للنمو السكاني في البلد، إلا أن البطالة وانسداد الأفق المهني والوظيفي أصبح معاناة يومية للخريجين وعوائلهم التي تكبّدت الكثير من الأعباء المالية من أجل أن تجد وظيفة محترمة يسترزق منها أبناؤهم.

المزعج لحد اليأس هنا أن هذه البطالة تأتي ليس على خلفية وجود فائض وطني في الكوادر الطبية أو نتيجة لنقص في الفرص والشواغر الطبية بل على العكس فالتوظيف للأجانب ما يزال مستمرا على قدم وساق في مختلف التخصصات وكافة المستويات. هذا التوقف في عملية التوظيف وتزايد معدلات البطالة وسط الأطباء والممرضين والفنيين الصحيين يأتي كتكريس لحالة التمييز في التوظيف للكفاءات من المواطنين الشيعة حيث يمنع توظيفهم في المؤسسات الصحية العسكرية أو شبه العسكرية والأمنية منذ أمد ولتتوسع هذه السياسة المقيتة إلى مؤسسات صحية مثل مستشفى "حمد الجامعي" الذي بني ليكون تحت مظلة وزارة الصحة ولكنه تم استلحاقه بالمؤسسة العسكرية لاحقا؛ حيث يكتظ اليوم بالغرباء بينما هو محرم في الوقت نفسه على أبناء الوطن من الشيعة!

  • طبيب بحريني مقيم في الولايات المتحدة الأمريكية

* للاطلاع على ملف "عقدان في الظلام" بصيغة pdf