عباس المرشد: لماذا لم أثق في الملك؟
2019-03-10 - 8:01 ص
عباس المرشد*
في 8 يوليو/ تموز 1999 أصدرت محكمة أمن الدولة في البحرين حكما بسجن القياديّ المعارض الرّاحل، الشيخ عبد الأمير الجمري 10 سنوات وتغريمه 5.7 مليون دينار. وبشكل مفاجئ، أظهرته شاشات التلفزة وهو يعتذر أمام الملك حمد بن عيسى آل خليفة وسط أفراد عائلته، الذي بدا ساعتئذ كما لو كان يبحث عن لحظة تشفي فيما لم تكن قد مرّت سوى أسابيع على جلوسه على كرسيّ العرش. في هذا اليوم ذاته كانت قوات الأمن تحاصر منزلنا في منطقة البلاد القديم من أجل اعتقالي. ارتأيت عدم تسليم نفسي والتمرّد على رغبات الانتقام والتوحش والفحش في الخصومة.
لقد شكلت هذه الصّورة الأولى علاقتي مع الملك لاحقاً. وهي التي جعلتني أتخذ موقفا مشككا إزاء كل ما يأتى من مؤسسة القصر التي أصبح على رأسها بعد وفاة والده. مذّاك أدركتُ أن الحاكم الجديد يحمل مشاريع ورؤى يسهل الانجرار خلفها وتصديقها؛ لكنها في الوقت إيّاه تحمل في طياتها ومضمونها السمّ الزؤام، أي رغبات الانتقام وهواجس السيطرة. أدركتُ أن القانون الذي سيعمل من خلاله الأمير خلال فترة حكمه الطويلة سيكون مختلفاً حتماً، لكنه سيكون ذا طبيعة مراوغة ومخادعة، وأن الأسلوب الأمثل للتعاطي مع هذه الحالة، هو حجب الثقة عن كل المشاريع التي سيأتي بها.
بعد قرابة العام من هذه الصورة المريرة؛ وتحديدا في 22 نوفمبر/ تشرين الثاني 2000 بدأت معالم مشروع "ميثاق العمل الوطني" تتّضح؛ وذلك كمشروع سياسي ينهي عمل انتفاضة التسعينات الدستورية (1994-2001). كانت هذه الفترة فترة ترقب وحذر لدى القادة السياسيين؛ وكانت التقديرات وقتئذ بأنها إما ستفضي إلى مصالحة سياسية يتطلّع لها الناس أو أنها ستكرس أزمة الاستبداد لمدة زمنية أطول. لهذا كانت الخيارات السياسية محدودة ومؤطره تماماً بأغراض المصالحة السياسية، أو ما أصر على تسميتها بـ"الترضية السياسية" والانفراج الأمني.
مع حلول يناير/ كانون الثاني 2001 أعلن الملك حمد عن طرح ميثاق العمل الوطني للاستفتاء الشعبي. ولأنه يعلم نتيجة الاستفتاء سلفا فقد كان عليه أن يعيد ترتيب المشهد السياسي لضمان تفوّقه وتحوّله إلى مخلّص أو قائد وطني. في تلك الفترة راح الملك يتوسل كل مدونات الآداب السلطانية لتحقيق مشروعه. وهذا ما حدث بالفعل؛ حيث استطاع الأمير الجديد أن يمرر مشروعه بدعايات سياسية واجتماعية عريضة أملت على القادة السياسيين أن يُظهروا الموافقة والتأييد، ليس للمشروع التصالحي فقط؛ وإنما بصورة أكبر وأخطر... لشخص الأمير.
لم يمضِ وقت طويل حتى أظهر الملك بعض خفايا مشروعه السري عبر الانقلاب على كل وعوده التي قدمها إلى المعارضة من أجل إقناعها بالتصويت على ميثاق العمل الوطني. ففي 14 فبراير/ شباط 2002 تاريخ اعتماد ميثاق العمل الوطني كوثيقة قانونيّة؛ في هذا التاريخ بالذات ـــ وهذه مفارقة ـــ انتهت سكرة المرحلة تماماً وبدأت مرحلة المواجهة المستترة مع المشروع السري الذي يقوده الملك.
أدركت المعارضة أن هناك خدعة ما وأن الشعارات التي رفعها وتم تسويقها لم تكن سوى عسل مغشوش لا يصلح للاستهلاك الآدميّ. وقتها دخلت قوى المعارضة في نوع من التحدي مع إرادة الملك في محاولة لاسترجاع ما سرق من مشاريعها السياسية وطموحها الديمقراطي الواسع. وفي المقابل كان على الملك أن يظهر براعة فائقة في تأجيل لحظة الصدام والانكشاف الكلي للمشروع السري الذي كان يُعدّ وراء ستارة المشروع الإصلاحي.
من عادة أصحاب النزعات الانتقامية والشخصيات المسيطرة اللجوء إلى تعنيف الضحايا عبر تذكيرهم بالقوة الباطشة أو القدرة الفائقة. وقد كان تسريب تقرير البندر (2006) نوعا من أنواع هذا التذكير: القدرة الفائقة للقوّة والمراوغة في تنفيذها. لهذا كان تقرير البندر هو بداية الإعلان فعليّاً عن انتهاء المراحل الأولى للمشروع السري الذي تمت تغطيته بالميثاق الوطني وما دعي مشروع الإصلاح السياسي.
فالاشتغال السياسي في مؤسسة القصر لم يكن في وارد التنازل لصالح توفير الدرجات الدنيا للمشاركة السياسية في الحكم الذي تعتقد العائلة الحاكمة أنه ورث ورثته من أسلافها القدماء ولا يمكن التفريط فيه. وهذا يتفق مع مجريات التاريخ السياسي لحكم العائلة الخليفيّة التي عملت منذ استيلائها على البحرين على إبعاد حتى حلفائها الذين شاركوها في عملية الاستيلاء. وهذا يفسّر لماذا لم تتمكن القبائل الأخرى من الاستمرار في تحالفها معها أو لماذا قُضي على نفوذها خدمة لمبدأ توريث الحكم.
عملياً، فإن مهمة الملك ليست الاعتناء بالمشاكل السياسية أو مخرجات المؤسسات الشكلية التي تمت صناعتها لأغراض أخرى تتمثل تحديدا في استكمال المشروع السري للحكم، وهو خلق هوية جديدة للبحرين تلائم هوية الإمبراطوريات العالمية وطموحاتها في المنطقة.
لقد بدا واضحا أن المسألة الشيعية هي ما يقلق الملك الذي قرأ تاريخ البحرين جيداً وأدرك أن ما يقف خلف الاحتجاجات المتواصلة ضد حكم العائلة، هو هذه المسألة. ولهذا كان مشروع استبدال الهوية أو على الأقل كسر مفاعليها السياسية ركيزة أساسية فيما يعرف بتقرير البندر. اللافت في هذا الصدد هو اللقاء الذي جمع الملك ومجموعة من العلماء الشيعة عند تسريب تقرير البندر؛ حيث أظهر [الملك] عدم درايته بالتقرير وما احتواه حين جرى التطرق له. الحرب على الهوية لم يقتصر على النطاق المحلي؛ ذلك أن متطلبات الإقليم ومصالح الدول الكبرى كانت حاضرة أيضاً وبقوة تمهيدا لمشاريع سياسية كبرى مثل الشرق الأوسط الجديد ومشروع التطبيع مع الكيان الصهيوني ومشاريع أخرى كان على الملك أن ينخرط فيها وأن يقوم بدور بارز لإثبات أهليته مقارنة مع الآخرين.
كل هذه القضايا كانت تحضر لدي بعنوانها الثقافي، لا بعنوانها السياسي، وكان الموقف منها موقف المثقف الملتزم والمسئول عن التصدى للهراء والدجل.
فالمسارات السياسية لا تتطابق بالضرورة مع المسارات الثقافية؛ فلكل مسار مجاله وآلياته المتعارف عليها. المسار السياسي متلوّن بذاته، يبحث عن المكاسب والصفقات الناجحة أو المربحة، في حين أنّ المسار الثقافي هو مسار تنويري في جوهره ومظهره ويهتم بالوقائع والتشكيلات وتعرية الأوهام ومقاومة العبث والهراء والدجل. لهذا كان خيار الثقافة المتمردة خيارا مكلفا. فأن تتخذ قرار الانتماء لحيز ثقافي ليس بالأمر السهل، في ظل سيطرة وهيمنة المسار السياسي.
إن حدود المعركة التي يفتحها مفهوم "الثقافة المتمردة" أطول من حدود تقاطعات السياسة، وهذا يعني أن تكون في معارك الثقافة بلا حلفاء في أغلب الأحيان لغياب تقاطع المصالح بين المثقف والسياسي. إذن ففضح المشروع الإصلاحي وتعريته من الأوهام ومحاولة اكتشاف المشروع السري ستكون من صلب اشتغال الثقافة المتمردة.
هذه شهادتي على 20 عاما من التمرس في الثقافة المتمردة، وهي شهادة تختزل كل ما درسته جيدا في كيفية اشتغال السلطة وبسط الهيمنة والتذكير الدائم بالقوة وإجبار الآخرين على الخضوع ومن ثم سلب هويتهم كي يتحول الناس إلى رعايا فاقدين لصلتهم بأحلام المواطنة والديمقراطية.
* باحث بحريني مقيم في لندن