فريدة غلام وإبراهيم شريف: حب عابر للمذاهب ونضال عابر للطوائف

2013-02-13 - 12:41 م


"اِعْلَمْ، ما تخلّلَ شيءٌ شيئًا إلا كان محمولًا فيه، كالماء يتخلّلُ الصوفة فتربو به وتتّسِع" ابن عربي.

مرآة البحرين (خاص): كان أصعب ما واجهني في لقائي بفريدة غلام -القيادية في جمعية وعد- هو الكلام عنها بشكل منفصل -نسبيًا- عن إبراهيم شريف. إبراهيم المُتخلِّل فيها حدَّ تخلُّلِ الماء في الصوفة الصوفيّة. كنّا كلّما حاولنا الانفراد بسيرة صوفتِها، وجدنا ماءه يفيض منها وفيها، فسيرة فريدة محمولة بإبراهيم، وإبراهيم مُتخلّل في كلّ فريدة، وكلّما أتتْ على اسمه رَبَتْ واتسعتْ وفاضتْ بالكلام، وهي القليلة الكلام. 

الصوفة الصوفية لا طائفة لها، مذهبها الحب فقط. الماء يتخلّل الصوفة حدَّ التماهي -وهما المختلفان جنسًا ونوعًا- كما يتخلّل الحبُ القلب. لهذا اجتمع إبراهيم (السني المذهب) مع فريدة (الشيعية المذهب)، ولم يسأل أحدُهما عن طائفة الآخر، لم يسألا غير قلبيهما اللذين اتسعا بأُلفةٍ بالحب، وضاقا بانقباض الطوائف، ثم راحا يتخلّلان صوفة كلِّ الوطن، ليفتحاه على مذهب الحبّ.

إنهم يعبِّرون العجم للخارج..

الفتاة التي تنحدر من أصول فارسية (العجم البحرينيين)، والتي نشأت وسط أسرة غير منخرطة في النشاط السياسي، ستجد نفسها تقترب من النشاط السياسي شيئًا فشيئًا، إلى أن تنخرط فيه من الباب الأوسع، وسيكون الاتحاد الوطني لطلبة البحرين و"إبراهيم شريف" مفتاح هذا الباب.

كان والد فريدة غلام وعموم العائلة يكرّرون: "إنّهم يضطهدون العجم ويعبِّرونهم للخارج"، "فالزموا الانشغال بأموركم لتتجنبوا ما يصيب مئات العجم البحرينيين"، تمّ تهجيرهم بالبوانيش إلى إيران في ثمانينات القرن المنصرم؛ عوائل كاملة، بعضهم بلباسه الذي كان يرتديه فقط، وبعضهم جُرجِر من مكان عمله، "كبرنا مع هذه الذاكرة التي صارت تهديدًا لكل العجم البحرينيين"، تقول فريدة. 

منذ الثمانينات، كانت تشغلها كيفية النهوض بواقع المرأة البحرينية، وتمكينها من حقوقها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، تشغلها ضرورة إقرار قانون عام لأحوال الأسرة، وهو الهمّ الذي ستبقى تحمله حتى اليوم، بإصرارٍ أكثر وبوجعٍ أكبر. جمعية نهضة فتاة البحرين كانت محطّتَها الأولى في حمل هذا الهم.

الاتحاد الوطني..

في كندا، حيث قضت الطالبة المتفوقة تعليمها الجامعي، حتى العام 83، في دراسة بكالوريوس الرياضيات، تعرّفت للمرة الأولى على الاتحاد الوطني لطلبة البحرين، من خلال مجموعة الطلبة الذين شكّلوا لهم وجودًا هناك، ومن خلال الأنشطة التي يقومون بها، ومن هذا الاختلاط، بدأ وعيُها السياسي في التشكّل، والانفتاح على أفرُع اتحاد الطلاب الأخرى، ومن هنا كانت محطّة تعرّفها بإبراهيم شريف وطلبة الاتحاد في أمريكا "في الصيف عندما عدنا إلى البحرين، تعرّفنا مجموعة طلبة (تكساس)، منهم إبراهيم شريف وعدد من الصديقات والأصدقاء، هم   أقدم وأكثر عددًا ونشاطًا من مجموعة (كندا)، صار بيننا تواصل، شاركنا معهم، وطلبة فروع الاتحاد بالدول العربية (الكويت وسوريا ومصر وغيرها)، في رحلات ثقافية واجتماعية في البحرين. في هذه الفترة بدأتُ أتعرّف على التاريخ النضالي المطلبي للشعب في البحرين، وهو التاريخ المُغيَّب عن المنهاج الرسمي، بدأتُ أتوحّد مع هذه الأفكار، فهي ما ألمس صدق تعبيرها عن الواقع، وبدأتْ الأرضية المُشتركة تجمعني مع هذه المجموعات الواعية، وكنتُ أساهم، كغيري، تطوّعًا لإنجاز بعض المهام الاجتماعية والثقافية وفق الفعاليات، وأجد في ذلك غبطةً ومعرفةً وتقديرًا للذات". 

وعلى العكس من فريدة، فإن إبراهيم، الذي تشكَّل وعيه السياسي مبكرًا وبدأ ممارسة نشاطه السياسي منذ السادسة عشر من عمره، كان يقوم بدورٍ قيادي حينها، وكان لديه تواصل مع عبد الرحمن النعيمي وبعض القياديين في الجبهة الشعبية بالمنفى، "لم أكن ضمن دائرة هذه العلاقات حينها، كنتُ أسمع اسم سعيد سيف فقط، لكني لم أتشرف بمعرفة سعيد سيف حتى عودته من المنفى".

الصُدفة عرَّفتهما..

حتى ذلك الوقت، لم تكن فريدة تعرف إبراهيم، بل كانت بداية تعرّفها عليه بدايةً عابرة غير ودّية في إحدى الرحلات الثقافية الاجتماعية الصيفية لطلبة الاتحاد بالبحرين. لكنّ العلاقة توطّدت دون أن يُخطَّط لها، حدث ذلك بعد أن جاء إبراهيم إلى كندا، مع وفدٍ مُصغّر من تكساس، في إطار العلاقات المشتركة بين الطلبة في جنوب أمريكا وشمالها، بعدها استمرّ التواصل والزيارات الطلابية المُتبادَلة. "بدأ كلٌّ منّا يتحدى الآخر بالأفكار، وخصوصًا تلك التي تحمل اختلافًا في الرأي، وصارت النقاشات بيننا لا تنتهي، كان إبراهيم نَهِمًا في قراءة الكتب، ولديه من الأفكار والمعلومات ما يتحدّى به حتّى معلّميه بالجامعة بكل ثقة وسهولة، وهذا كان يحفّزني لأقرأ وأبحث أكثر".

طلب والد فريدة التعرُّف إلى إبراهيم، فجاء في رَهطٍ من الأصدقاء والصديقات من طلاب الاتحاد، وسريعًا ما أُعجِب الوالد بالفتى القيادي، وأُعجِب الفتى بالوالد المُنفتح، وتمّت الخطبة بشكلٍ رسمي، وكان السؤال الوحيد الذي حضر فيه سؤال المذهب هو: هل تُفضِّلُ العقد عند شيخٍ شيعي أم سني؟ سأل شريف، فكان جواب الأب، لا فرق عندي، لكن من الأفضل لو نذهب إلى الشيخ عمر. تقول فريدة "بعد زيارة الشيخ عمر مع عمي والد إبراهيم، رحمه الله، ومع إبراهيم وإخوته وإخوتي، دخل أبي غرفتي وقال لي: خلاص، كل شيء تم. بهذه الأريحية والترحيب تم عقد قراني وباركه أبي فرحًا، فعلًا كان أبي يسبق زمنه مُتساميًا على الأمراض الطائفية التي نراها تترسّخ هذه الأيام". كان ذلك في العام 1981.

تخلُّل النِدّ للنِدّ..

بدأ كلٌّ منهما يتخلَّل وجود الآخر بما يُعزِّز اهتمامه أكثر، كلٌّ في الجانب الذي يعمل عليه، "كان إبراهيم يُعزّز عملي في جانب المرأة ويطرح عليّ أفكارًا باتجاه خدمة قضاياها، وأنا أشاركه حماسه في جانب السياسة وأشاركه تقليب أفكاره فيها"، هذا التكامل حافظ على علاقة نِدّية متكافئة بينهما، وأخذ يزيد من وهج علاقتهما. "نحن أصدقاء، لا نزال بعد كلِّ هذه السنين لا يشعر أحدنا بالملل عندما يجلس مع الآخر، العلاقة الفكرية بيننا تُغذّي العلاقة العاطفية، دائمًا لدينا موضوعاتنا، كلانا يُحب الحوار والمُناقشة، نُحب أن تأخذ الفكرةُ أبعادَها، أن نتعمّق فيها ونفهمَها، ولا يزال إبراهيم يتحدّاني في فكرةٍ ما، فأذهب للبحث عنها قبل أن أعود محمّلةً بها إليه، ومحمولةً به فيها. إبراهيم يُعلّمكِ المثابرة، الإصرار، لا شيء مستحيل في قاموسه، وهو معلّمٌ بالفِطرة في مجالاتٍ عديدة ومُعقّدة" تقول فريدة.

لم تلبث فريدة، الطالبة المتوفقة والمُدرِّسة المُجدة، أن وجدت نفسها سريعًا داخل دائرة السياسة، وستنسى، أو تتجاوز، عبارة والدها التي ظلّت تسمعها منذ الطفولة: "إنهم يضطهدون العجم ويعبِّرونهم للخارج"، صارت فريدة تعبر داخل عالم إبراهيم الضاجّ بصَخَب السياسة الممنوعة من التدوال في البلدان العربية، صار بيتهما يحتضن اللقاءات والجلسات السرية لأعضاء الجبهة الشعبية والأصدقاء المهمومين بمستقبلٍ أفضل للبلد، "وجدتُ نفسي مُلتَحِمةً أكثر بقضايا وطني وسط إدراكٍ مُتزايد بالحق ومُتطلّبات سياسية مشروعة منسيّة لشعبٍ صابر مُسالم". 

إعدام عيسى قمبر..

في العقد التسعيني المُرّ، وبعد تنفيذ حكم الإعدام على الشهيد عيسى قمبر، كانت فريدة مدرّسةً للرياضيات في مدرسة جدحفص الثانوية للبنات، الطالبات يمتنعنَ عن دخول الصفوف احتجاجًا، يجلسنَ في ساحة المدرسة يقرأن القرآن باكيات، الأوضاع السياسية في قمّة توتّرها، مديرة المدرسة تجتمع بالمعلمات وتتّهم بعضهن بتأجيج الطالبات، تقصد فريدة من بينهن. تُهدِّد الطالبات بدخول الشرطة، الذين كانوا يقفون مُتأهّبِين عند باب المدرسة. تقف فريدة وأخريات في مواجهة مع مديرة المدرسة: "إلا دخول قوّات الأمن إلى داخل المدرسة، لا مُسوِّغ أخلاقي أو ديني يُمكن أن يغفر ذلك". تحذّرها من العواقب. تنجح فريدة في إقناع المديرة بعدم إدخال الشرطة. "أركبنا الطالبات الباصات ووصلن بيوتهن بهدوء وسلام".

العمل السياسي..

النقلة الكبيرة التي عاشتها فريدة في نشاطها السياسي جاءت بعد تأسيس جمعية العمل الوطني الديمقراطي، في 2001، ودخول العمل السياسي مرحلة العلن. صارت رئيسة لجنة المرأة في الجمعية، ولأنّها جمعية سياسية فلا بُدَّ من أجِنْدَة سياسية لدائرة المرأة، "وجودنا في الجمعية أتاح لنا طرح قضايا المرأة بشكلٍ أكثر رحابة وجرأة عن الجمعيات النسائية، بالإضافة إلى توفّرنا على بيئة مُناسبة للعمل البحثي المفتوح، ومن هُنا طرحنا كُتيِّب الأحوال الشخصية الذي أثار لغطًا واسعًا".

الموضوعات البحثية استهوت فريدة، هذه المرة بدأت دائرة المرأة تتّسع على السياسة: النظام الانتخابي بما هو معنيّ بالمرأة، المسألة الدستورية، تاريخ الحركة الوطنية، التمييز، التجنيس، قضايا الفساد، العدالة الاجتماعية، ونهب الأراضي. كلها موضوعات صارت موضع اهتمام فريدة وبحثها. الندوات الأسبوعية في الجمعية بدورها جعلت الوعي السياسي ينمو ويتسع.

في انتخابات 2006، وكذلك 2010، يختار إبراهيم فريدة لتكون مديرة حملته الانتخابية، "كانت مَهَمّةً مُهلِكة ومُتعِبة، العمل مُكثّف ومتواصل فيه الليل بالنهار، خاصّةً مع شخص مثل إبراهيم لا يعترف بالمستحيل ولا بغير الممكن. ورغم التعب المستحيل، فهذه الفترة علّمتني الكثير من المهارات في إدارة الحملات الانتخابية وفِرَق العمل".

بعد اعتقال الرمز..

نحن لا نعرف حجم القوّة التي في داخلِنا حتى ندخل في امتحانِها. كانت فترة التعذيب هي أقسى المراحل التي عايشَتْها فريدة أثناء تجربة سجن إبراهيم. "كان عليّ أن آخذ دور التواصل الإعلامي مع الداخل والخارج لأوصِلَ صوتَ إبراهيم وباقي القيادات بشأن الجرائم والفظاعات التي ارتُكِبتْ في حقّهم كونهم سجناء رأي وقيادات، وأنا أرى معاناة العائلة وخوفها على ابنها الذي مُورس عليه التعذيب الشديد والمُجهِد، وأرى مصائب الناس والمجتمع. كان عليّ أن أتمتّع بجُرعة كبيرة من القوّة لأهوِّن على أبنائي وأساعدهم في استكمال دراستهم وحياتهم، مستوى صمود الرموز يُخجلك أن تكون غير صامد، كان عليّ أن أُمارس نشاطي السياسي في جمعية وعد مع كلِّ ما تعرّضَتْ له. حريقٌ بإلقاء قنابل حارقة مرتين "بفعل مجهول" و غلقٌ للمقر، ورسائل مشحونة بالكراهية والتهديدات عبر وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام الرسمي وغير الرسمي،   لكنّي كنتُ أزداد قوّةً وصلابة، ربّما هي تركيبتي النفسية الخاصة، وبالطبع هي روح مدرسة إبراهيم والنعيمي التي طالما علّمتني أنّ طريق النضال الوطني ثمنُه أغلى من الكلام والألم".

إبراهيم من داخل السجن لا يهمّه ما يجري عليه، بقدر ما يهمّه أن يطمئن على فريدة والأبناء والأهل ووعد، يتّصل بها ليُخفِّف عليها خوفها وخوفهم عليه، يُطمئنُها ويقوّيها، فسيتفزُّها أكثر. تقول فريدة "إبراهيم لا يزال يستفزّني ويتحدّاني حتى من داخل السجن، لكن هذه المرة بطريقة مُختلفة، فأنا على ثقة أنّه قادرٌ على تحمّل كل ما يتعرض له من تعذيب و محاولات نفسية للإذلال أو كسر الشوكة، أعرف مقدار الصلابة في تفكيره وفي شخصيته، لهذا من المعيب أن لا أكون بنفس المستوى من الصمود والصلابة، أنا التي في خارج السجن وفي ظروفٍ أفضل منه آلاف المرات". 

هكذا يتخلَّل إبراهيم فريدة من داخلِ السجن ومن خارجِه، وهكذا تكون فريدة صورةَ إبراهيم التي يُحبُّ أن يرى نفسَه من خلالِها..


التعليقات
التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

comments powered by Disqus