» رأي
بحثا عن الكاهن البحريني
صافي نزار - 2013-03-12 - 6:55 ص
صافي نزار*
تحدّث الكاهن البوذي يروي تجربته مع الاحتلال الصيني لبلاده "التبت"، يقول: "ما شاهدته من وحشية الجنود الصينيين لا يمكن أن ينمحي من ذاكرتي ما حييتُ. جماعة من الأمهات والأطفال كانوا يحتمون وراء صخرة كبيرة بعيدًا عن أنظار جنود كانوا يمشطون المنطقة بدباباتهم بحثًا عن الثوار المقاومين للاحتلال، لمحهم الجنود فصوّبوا رشاشاتهم وأطلقوا النار على النساء والأطفال فقتلوا كل واحد وواحدة منهم. أفنوهم بدم بارد. على مدى خمس وعشرين عامًا بعد الحادثة، كرهت الصين وكرهت الصينيين. كرهت اللون الأحمر، ورفضت أن يتزين به أحد في أعراسنا. كان في المنطقة التي انتقلت للعيش فيها معبد بوذي صيني، لم أدخله قط. وكان هناك مطعم صيني قاطعته، ورفضت أن أقترب من الشارع الذي يقع عليه. كانت ذاكرتي تؤلمني، والكراهية للصينيين تملأ جوانحي. كرهتهم بكل ما أوتيت من قوة لما فعلوه بنا من قتل وهتك أعراض وتدمير لمقدساتنا. كان عبء الكراهية أكبر من أحتمله. لم تنفع معي كل وصايا أساتذتي بممارسة التأمل، بل كانت كل جلسة تأمل تحفر في أعماقي وتملؤها بالمزيد من الغضب والكراهية.
ذات يوم، دفعت نفسي دفعًا وأجبرتها على الدخول إلى المطعم الصيني. هناك وجدت صاحبة المطعم، امرأة عجوز. تحدثت معها عن الاحتلال الصيني لأرضي وما فعله الصينيون بأهلي وناسي. أفرغت أمامها كل مشاعر الكراهية التي احتبست في صدري على مدى خمس وعشرين عامًا. فاجأتني العجوز بأنها كانت تبكي. تحدثت بدورها وهي تحبس دموعها تارة وتطلقها أخرى. أخبرتني عما فعله الشيوعيون بها وبعائلتها وأحبتها. لم تكن تجربتها تقل قسوة وألمًا عن تجربتي. التحمت يدانا، وقضينا بعض الوقت يمسح كل منا دموع الآخر. عندها اكتشفت أن الصينيين لم يكونوا أعداءً لي قط. تنبهت إلى الصينيين قد عانوا من نظامهم الشيوعي الحاكم مثلما عانينا نحن في "التبت" عندما احتلتها الصين. كان عدونا مشتركًا. كان النظام الشيوعي يفعل أفاعيله في كل من وقف أمامه، ولم يرحم أحدًا اعترض على سياسته.
خرجت من المطعم الصيني وأنا أشعر بثقل كبير قد انزاح عن كاهلي، مشيت في الشوارع والطرقات خفيفًا رشيق الخُطى. عندما وصلت إلى البيت شعرت أنني أحب الصين، وأحب الصينيين. لم يكونوا يومًا أعدائي، بل كانوا مثلي، ضحايا نظام سلبهم إنسانيتهم، وأفقدهم توازنهم النفسي والاجتماعي؛ نظام حرم شعبه من إرث حضارته ورقيّ تعاليم دينه."
تأملت مليًا في تجربة الكاهن البوذي. كره الكاهن الصين وأهلها طوال خمس وعشرين عامًا، قيدته خلالها أغلال الكراهية وأقعدته بثقلها عن عبور شارع قريب لا يحتاج منه سوى خطوات قليلة يتحرر بعدها من ألم أضنى جسده وأسهر ليله طوال تلك الفترة. ولكنه عندما قرر، في لحظةٍ شجاعة، مواجهة نفسه بصدق، احتاج إلى جلسة واحدة فقط، وإلى سويعات قليلة لا أكثر، أنصت خلالها إلى صوت الآخر في مقابله. عندها فهم أن من كان في نظره عدوّا بغيضًا لم يكن في واقع الأمر سوى ضحية مثله. عندها أدرك أنه، مثل تلك السيدة العجوز، مجرّد ضحية لنظامٍ أقام نفسه غصبًا وشيّد عرشه فوق أشلاء معارضيه.
فجأة وجدتُني أحدّثُ نفسي: " إنني أحب كل أخوتي في الوطن، لم يكونوا يومًا أعدائي؛ إنهم مثلي، ضحايا نظام سلبهم إنسانيتهم، وأفقدهم توازنهم النفسي والاجتماعي؛ نظام حرم شعبه من إرثِ حضارته ورقيّ تعاليم دينه"
*كاتبة بحرينية.
اقرأ أيضا
- 2024-11-23التعايش الكاذب وصلاة الجمعة المُغيّبة
- 2024-11-20دعوة في يوم الطفل العالمي للإفراج عن الأطفال الموقوفين لتأمين حقهم في التعليم
- 2024-11-18النادي الصهيوني مرحبا بالملك حمد عضوا
- 2024-11-17البحرين في مفترق الطرق سياسة السير خلف “الحمير” إلى المجهول
- 2024-11-13حول ندوة وتقرير سلام تعزيز الديمقراطية.. أمل قابل للتحقيق