المعلمة خديجة تخص مرآة البحرين بنشر صور تعذيبها: هذه آثار تعذيبي شاهدة، وطالبتي «حسناء» بين من عذبوني

2013-06-13 - 7:39 ص



مرآة البحرين (خاص): لا يزال النظام البحريني منذ أكثر من عامين، يطور بمهارة فائقة، قدرته على إعادة صناعة المواطنين، وتحويل معظمهم من بسطاء إلى نشطاءٍ ضدّه، ومن متجنبين لخوض الصراع المباشر معه، إلى أعداء. 

من يعرف خديجة المعلمة بمدرسة يثرب الإعدادية للبنات، يعلم جيداً أنها من النوع الهادئ والمثابر في عمله فقط، وأنها ليست ممن يورط نفسه فيما قد يجر عليه أي نوع من المشاكل، فضلاً عن المعاقل، وأنها تؤثر السكوت على الكلام، حين يتعلق الأمر بتصعيد مع السلطة. لكن لم تعد خديجة كذلك بعد الآن.

عندما نطقت خديجة..

بعد خروجها من المعتقل الذي بقيت فيه 8 أيام، وتعرضها لتعذيب لوّن جسدها بالكامل، بقيت خديجة صامتة، واكتفت بتوثيق حالتها عند لجنة تقصي الحقائق، وعندما عرض المقربون عليها رفع دعوى قضائية ضد معذبيها، تجنبت خديجة ذلك، لم تكن تريد التصعيد، رغم أنها الضحية، وربما ظنت أن ذلك أكثر أماناً لها، أو أن قضيتها ستنتهي إلى خير كما العديد من زميلاتها، وهي في كل الأحوال، ليست ذات نََفَسٍ للمواجهات والمشاكل، آثرت ابتلاع وجعها الذي لا تزال آثاره موشومة على جسدها.

لكن الجلاد لم يكفه ما فعل، سبقها إلى تقديمها المحاكمة، صارت خديجة هي المتهمة، وبعد أكثر من عامين من جلسات المحاكمة، أصدرت محكمة التمييز في 3 يونيو الجاري حكمها عليها بالسجن 6 أشهر. كانت صدمة خديجة أكبر من أن تتوقعها، كذلك المجتمع.

الآن، لا تعرف خديجة أي لحظة قد تختطف من وسط بيتها وعائلتها، لكنها قررت أن تفتح معركتها على الكلام، وأن تفضح ما صمتت عنه طوال عامين، انتزعت رهبة المحققين من قلبها وقسوة الجلادين من جسدها وقالت نعم للصحافة ومن طلبها للكلام الذي كانت تتجنبه. 

 
(مرآة البحرين) التقت خديجة، وكان الحديث طويلاً، فيما بقت الغصّة في قلبها وعينها ثابتة طوال اللقاء. قبلت خديجة لأول مرة، أن تنشر من خلال (مرآة البحرين)، صوراً للآثار التي بقت تاركة شهادتها على جسدها لأكثر من عامين. لم تفلح محاولات علاجها في إخفائها. أصرّت البقع الزرقاء أن تبقى، لتفضح نموذجاً من الإجرام الممارس بحق هذا الشعب. 

شرارة مدرسة يثرب..

مدرسة يثرب الإعدادية للبنات، تقع في الدوار العاشر بمنطقة مدينة حمد، الأخيرة من المناطق المختلطة في البحرين والتي يسكنها كل من السنّة والشيعة ويكثر فيها عدد (المجنسين سياسياً). توترت المناطق المختلطة إبان أحداث فبراير 2011 بشكل عام، لكن المدارس كانت شرارة لإشعال فتيل التوترات في كثير من المناطق المختلطة، خروج نوعين من مسيرات الطلبة في المدرسة الواحدة، واحدة معارضة وثانية موالية. التوترات تنعكس تلقائياً على الخارج وأولياء الأمور، وبالطبع فإن الهيئات التعليمية والإدارية لم تنج من الاختلاف. مدرسة يثرب كانت من تلك التي شهدت احتجاجات وتوترات بين الطالبات، ستدفع الهيئة الإدارية والتعليمية من طائفة واحدة ثمن هذا التوتر، بينهم مديرة المدرسة التي تم توقيفها عن العمل ومجموعة كبيرة من المعلمات بينهم خديجة، كما ستدفع الثمن مجموعة كبيرة من الطالبات من طائفة واحدة أيضاً، وذلك بعد إعلان حالة الطوارئ وبدء مرحلة الانتقام المكارثي.

جرائم خديجة!!

تسترجع خديجة ذاكرتها، كان ذلك مع تطور أوضاع الثورات في تونس ومصر، كانت خديجة، كما الجميع حينها، تتبادل مع زميلاتها المعلمات الأخبار والقراءات والتحليلات. في جلسة عمومية مع المعلمات، تسأل خديجة ببساطتها: يقال إن هناك دعوة لثورة في البحرين في 14 فبراير؟!

كانت على مسافة قريبة المديرة المساعدة (رجاء الدوسري)، التفتت لخديجة موجهة استنكاراً حاداً وعالياً: خديجة.. ماذا سيحدث في 14 فبراير؟!! أجابت خديجة من فورها مرتبكة: 14 فبراير يوم الميثاق! تعلم خديجة أن تلك (الجريمة) سُجِّلت عليها منذ ذلك اليوم.

بعد إعلان حالة الطوارئ، وفتح باب المكارثية على مصراعيها، والبدء في حملات المداهمات والاعتقالات والانتهاكات وسقوط الشهداء واحداً وراء الآخر، اجتمعت المديرة المساعدة بالمعلمات بتاريخ 17 إبريل، وأخبرتهم بقرارها إحضار الفرقة الموسيقية التابعة للحرس الوطني في اليوم التالي، معللة ذلك بتقوية الحس الوطني عند الطالبات، وأنها ستكتفي بتقديم السلام الوطني. 

في اليوم الثاني حضرت الفرقة الموسيقية، وتحول اليوم الدراسي إلى حفل غناء ورقص وفرح وتهليل، امتد الغناء والرقص، وتمايلت المعلمات المحسوبات على النظام كمن يتمايل على وقع موسيقى انتصار على عدو، ورقصت الطالبات المواليات والمجنسات فرحاً وشماتة واستفزازاً. في المقابل وقفت الطالبات المحزونات والملكومات صامتات يحترقن من الداخل، لم يكن أحد يستطيع الكلام حينها، المقاصل والمشانق والسيوف كانت قد علقت في الشوارع تنتظر. بعضهن أخذتها نوبة بكاء شديدة، كن يستحضرن جثث الشهداء والمعتقلين والمصابين والجرحى أمام هذا الرقص الموغل في التشفّي. احتضنت خديجة إحدى الطالبات التي كانت تبكي بشدّة، حاولت تهدئتها. ستكون تلك هي (الجريمة) الثانية التي ترتكبتها خديجة.

باص الأمن في ساحة المدرسة..

بعض الطالبات لم يتمالكن أنفسهن، بدأن يستنكرن، ارتفعت وتيرة الكلام والرد، بدأت الفوضى. اتجهت خديجة لقسمها بالطابق العلوي لتمارس عملها الإشرافي، لم تلبث أن بدأت تسمع أصوات طلقات وصراخ الطالبات، علمت أن الأمر تطور لما هو أسوأ. دقائق وجاءت طالبة تقول لها: شرطي مدني يريدك. 

وصلت الإشارة إلى خديجة سريعاً. تذكرت النظرات الحادة، كان وجه المديرة المساعدة (رجاء الدوسري) يرتسم في رأسها. ذهبت لرجل الأمن، سألته. نفى أن يكون قد طلبها، تعجبت خديجة، لكنها ارتاحت، ظنت لوهلة أنها في مأمن. سرعان ما جاءها الاتصال من المديرة المساعدة مباشرة تدعوها إلى المثول في مكتبها بأمر من الشرطة. علمت خديجة أن المديرة المساعدة قد أوصلت الحقد لا الحقيقة. تهيأت للأسوأ.

في غرفة الميرة تم توجيه سؤال واحد لها فقط: هل أعجبك ما حدث؟ لا، أجابت. نظرت بعينها إلى خارج الغرفة، كان باص الأمن يتوسط ساحة المدرسة، وقد ملئ بالطالبات، انكسر قلبها. لم تكن تعرف أنها ستكون معهن في ذات الباص بعد دقائق. أدخلوها الباص، عندها شعرت بأنها أم جميع هؤلاء الطالبات، وأن وجودها معهن سيوفر لهن شيئا من الشعور بالأمان، ربما.

اتركوا حجابي..

مركز شرطة دوار 17 كان هو الوجهة. هناك أُوقفت خديجة مقابل الحائط لما يقارب ساعتين من الزمن. لم يراع عمرها ولا كونها مربية أجيال لمدة 25 سنة. وقفت طوال هذه المدة دون أن تنبس ببنت شفة، كانت أذنها وقلبها مع صراخ الطالبات وأنين أجسادهن التي ينهشها الضرب، كان مطلوباً من الطالبات الاعتراف أن معلمة خديجة هي من حرضتهم على الفوضى في المدرسة!

تروي خديجة لحظات تعذيبها لمرآة البحرين: حقّق معي الضابط (طاهر العلوي) الذي أصدر أمرا أن يخلعوا حجابي ويصمدوني به، لكني قاومتهم بكل قوتي، عندها قال الضابط لي: أنت أكبر محرضة، يكفي أنك شيعية. ثم أمرهم بتقييد يدي " بالهافكري"، ووضعوا العصابة على عيني، ثم بدأ مسلسل الضرب الذي ظننته لن ينتهي حتى انتهي. كانت الضربات تأتيني عنيفة من كل صوب، بالأيدي والأرجل والأحذية وأشياء لا أدري ما هي. حاولت أن أتماسك لكن جسدي لم يسعفني وبدأ ينهار مني. وقعت على الأرض بعد أن انهار كلي، ويبدو أنهم ظنوني فقد الوعي فتوقفوا عن الضرب. لكن لن أنسى الشرطية (حسناء) التي كانت تتفنن في تعذيبي، ليس صعباً علي معرفتها فقد كانت واحدة من طالباتي اللآتي درستهن وأغدقت عليها من عطفي وحناني، وقد ردّت لي الجميل جيداً.

 تكمل خديجة: "لن أنسى تهديدهم لي بجلب بناتي واغتصابهن أمامي، أما أولادي سيكون نصيبهم الإعاقة بعد أن يتم استهدافهم أمامي برصاص الشوزن، وكل ذلك من أجل الاعتراف بتهم لا علاقة لي بها. أخذ الضابط يعبث بجهاز الحاسوب الخاص بي، ثم أمر بأن ينقل كل ما يوجد على حاسوبي عبر (فلاش ميموري) خاص بهم، وهنا اعترضت عليه وقلت له ماذا يدريني أن لا تضعوا في جهازي ما تشاءون. ثم أمرني بالتوقيع على المحضر وكان حريصا جدا على أن لا أرى ما كتب به لذا وضع يده على أوراق المحضر تاركا لي مساحة للتوقيع بأسفلها.

لم أعرفني..

تضيف خديجة: "لم أستطع التعرف على نفسي في المرآة بعدما انتهت الجولة الأولى من التعذيب التي استمرت من 11 صباحا وحتى 2 مساء، وكنت أظن أنهم أشبعوا نهمهم مني، لكن كان لي موعد آخر بالليل، أخذوني لغرفة بها ثلاثة شرطة رجال بلباس مدني، وما إن جلست حتى بدأت أكفهم تتوالى على وجهي ذات اليمين وذات اليسار، بل وهددوني بتعليقي من شعري بالمروحة إذا لم أقل ما يريدون، وبتحويلي للنائب العسكري، وبالفعل أدخلوني على النائب العكسري، وكانت باستقبالي شرطية تحمل عصا كهربائية، في تأهب لضربي وقت ما يشاء النائب، وبدأ النائب بتوجيه أسئلته: من حرضك؟ لماذا ذهبت للدوار؟ وأجبتهم إجابة الواثق من نفسه بأن ولي العهد عندما خرج على التلفزيون الرسمي وسمح للناس بالتجمع في الدوار ذهبت كسائر الناس وبذلك أنا لم أقم بما يخالف القانون".

 
إلى مركز مدينة عيسى..

بعد يوم كامل من الضرب والتعذيب والتنكيل، نقلت خديجة إلى سجن مدينة عيسى، "بمجرد وصولي تعرضت إلى تفتيش دقيق ومذل في آن واحد، لكن هالهم ما رأوه على جسدي من آثار التعذيب، ويبدو أنه أرهبهم، فبادروا بسؤالي: هل أنت تعبانة؟ هل أنت مريضة بالقلب؟ أجبتهم: لا أشكو من شيء. لكنهم لم يقتنعوا بجوابي وطلبوا لي الإسعاف، وعرفت أن الوجهة هي مستشفى القلعة، بعدها أُعدت لسجن مدينة عيسى، وأذكر أن أول من احتضنتي وأخذتني بحنان هي المربية الفاضلة فضيلة المبارك التي حرصت على إطعامي وتهدئتي، وربما ما زاد من سكينتي أني وجدت السجن مملوءاً بالطبيبات والمعلمات والممرضات".

رسم الحذاء في ظهري..

لم تخف (خديجة) يوماً عندما كانت تذهب للعلاج بالمستشفى في بيان سبب إصابتها، وكانت دائما تردد أن ما بها هو بسبب ضرب الشرطة، وتذكر أن زميلاتها بالسجن أخبرنها أن رسم حذاء الشرطة كان مطبوعاً على ظهرها. وبالرغم من مرور أكثر من عامين إلا أنها ما زالت تعاني من جراء مالقته في ذلك اليوم من التعذيب، وعندما خرجت من المعتقل لجأت إلى المستشفيات الخاصة لإكمال علاجها لكنها تفاجأت بأن علاجها سيكون طويلا جدا ومكلفا.

الحكم الأخير..

كما إن رحلة علاج خديجة طويلة ، فكذلك كانت محاكماتها طويلة أيضا، كان آخرها يوم الإثنين 3 يونيه إذ حكم عليها بالسجن مدة ستة شهور بعد أن أدانتها المحكمة بتهمتين وأسقطت عنها تهمتين، وبالرغم من أن آثار التعذيب واضحة على جسمها وأوراق المستشفى تثبت ذلك لكن القاضي لم يعرها أي اهتمام. التهم التي وجهت لخديجة هي ذاتها التي وجهت لمعظم من فُصلوا من أعمالهم أو تم توقيفهم: تحريض على كراهية النظام والتجمهر بدوار اللؤلؤة والمشاركة بمسيرة المعلمين واستخدام بوق السيارة بما يسيء للقيادة. لكن ما الخاص في خديجة أن تحاكم وتسجن فهذا سرّ إجابته عند مديرة المدرسة المساعدة. ومع إنها دفعت كفالة 200 دينار إلا أن القضية لم تحفظ وتنقلت بين المحاكم العسكرية والاستئناف والتمييز حتى صدر الحكم.

منذ صدور الحكم القضائي على خديجة وحياتها قد تغيرت كلياً، صارت تنام وتصحو وعينها جهة الباب، لا تعرف هل ستسمع طرق الباب أم ستتفاجأ بهم داخل منزلها، القلق يسيطر على كامل العائلة والأبناء الذين يقضون امتحاناتهم النهائية وسط قلق مرعب من أن يناموا ويستيقظوا على خبر القبض، أو أن يذهبوا لتقديم الامتحان ثم يعودوا لبيت خال من والدتهم، لا أحد يعرف متى وكيف، الكل يد على القلب ويد مرفوعة للرب.


التعليقات
التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

comments powered by Disqus